كثيراً ما انكبّت الدراسات والقراءات والأحاديث التي تتطرّق إلى تجربة الشاعر محمد الصغير أولاد أحمد، على تناول صوته المشاكس والمحتجّ، الرّافض، المتصادم مع السلطة بوجهيها السياسي والديني. لكنّ صوته الناقد الذي يتردّد داخل قصائده وكتاباته، ظلّ مسكوتاً عنه ولم ينل اهتماماً يُذكر. ففي قصائد أولاد أحمد يتردّد باستمرار صوت «ميتا شعري»، يلتفت إلى فعل الكتابة وإلى قضايا الشعر ومشاغله، ممارساً مهمّة التّعليق الدّاخلي، لافتاً الانتباه إلى خطاب واصف يمزجه الشاعر مع شعره، يحتاج إلى تأمّل. وهذا ليس بغريب عن الكتابة الشّعريّة. فلقد ظلّ الشّعراء منذ القديم يخصّصون نصيباً من قولهم للكتابة وأدواتها ولعوالم الشّاعر الخارجيّة، وقد صار هذا الخطاب مجال بحث تهتمّ به الدراسات الشعريّة المعاصرة. ولعلّنا نرصد حضور هذا الخطاب في تجربة أولاد أحمد، وهو خطاب يبدو للوهلة الأولى امتداداً لرحلة الشاعر وتصادمه مع الفضاء السياسي والديني والثقافي. فهو يخوض عبره شجاراً مع النص ومع المؤسّسة الشعرية ومع السلطة، ويتابع فعل الكتابة ومشاقّها وحيرتها. ولعل هذا الصوت الناقد يُعتبر باباً آخر يمكن الولوج عبره إلى عوالم الشاعر ومواقفه ورؤاه الأدبيّة. فما هي تجلّيات التفات الشاعر إلى شعره في نماذج من نصوص أولاد أحمد؟1 ــ الالتفات إلى الكتابة:
لعلّ من تقنيات الخطاب الواصف الالتفات إلى الكتابة. وهو التفات يعود خلاله الشاعر إلى أدوات الكتابة وأفعالها على غرار ذكر القلم والدواة والأوراق. ولعلّنا نجد صدى واسعاً لهذه الالتفاتة في استعمال الشاعر بكثافة لفعل كتب. فهذا الفعل يحضر في نصوص عديدة وفي صيغ مختلفة. فلعلّ الكتابة باتت هاجساً محيّراً للشّاعر بل وسيلة يتخذها الشّاعر لمقارعة العالم والاشتباك معه. فالكتابة تبدو سؤالاً عميقاً من أسئلة الخطاب الواصف لدى أولاد أحمد وغيره من الشّعراء في حقيقة الأمر. ولعل سؤال الكتابة يبدو سؤال الأدوات في هذا المقطع:
بم كتب الأوائل قصائدهم؟
-بالجزر المبتل.
وبأيّ من أغصان الغابة نسخ الرجل أسفارهم؟
-بريش العصافير المذبوحة.
وبماذا تكتب أنت؟
-بأصابع قدمي؟
لعل هذه الإجابة الأخيرة تبدو غريبة ومعاكسة ولكنها تنتج صورة شعرية طريفة. فالورقة تتحول إلى تراب وفعل الكتابة يصبح فعل سير وركض.
«أدقّ بهما على التّراب الطري دون نظام مسبق، مثل حصان جامح
وبمجرد أن يستقيم إيقاع أو تتشكّل أجنحة لصورة
تسقط الحروف على ورقة
وتتوزّع على البياض كما يتوزّع الجنود
الأمّيّون في صحاري الشرق الأوسط...»
هذا التشبيه الأخير يبدو طريفاً. ولكنّه يحمل دلالات هامّة. فتشبيه الحروف بالجنود يحيل إلى عنف الكتابة وتعطشها. ولعل هذا يعود إلى وعي بتلك الكتابة المقاومة التي ينهجها الشاعر. فهو يخوض مواجهات عديدة. فالكتابة تظلّ في عمق الكاتب سلاحاً قويّاً وأداة مواجهة. لذلك، يشبه الكاتب انتشار الكلمات في النص بانتشار الجيش في الصحراء حيث الجفاف والقحط. وهو ما يحيلنا إلى دلالة أخرى لفعل الكتابة وهي مجابهة هذا التصحّر الفكري والثقافي.
أمّا المثال الثاني للالتفات إلى فعل الكتابة في حد ذاته، فيرد فيه فعل الكتابة في صيغة الأمر ويتخذ موقعاً في عنوان القصيدة يزيده أهمية ودلالة. فيرد حاملاً رسائل عديدة:
«اكتب
اكتب
اكتب
يتعيّن هذي اللحظة
أن تكتب أو تكتب
اكتب بأصابعك التسعة
العاشر مقلوعاً ضاع
في جيب فتاة لا تكتب»....
و يربط الشاعر فعل الكتابة في هذه القصيدة بالموت الذي يتحول إلى شكل من أشكال السلطة:
«اكتب
فالخطبة جاهزة
والقبر
ودمعات سرقت من محبس زهر بونيقي
ووزير الموت
وحاجبه
والجوقة
والغربان
ومفتي الدين الجمهوري...»
فتبدو الكتابة كتابة حذر من السلطة السياسية والدينية. فالكتابة قد تعرّض صاحبها إلى المحاسبة والعقاب:
«اكتب ما شئت
وحاذر تأنيث الماء
الوقت هباء
وتهيّأ للملكين
وكن نصاً منسياً بين
جناحَي جبريل...»
ومن الأمثلة الأخرى على حضور فعل كتب قصيدة نساء:
«كتبت
كتبت
فلم يبق حرف...»
ولعلّ هذا المقطع يشير إلى تعب الكتابة ومعانيها. كأن الشاعر يقرّ بحالة فراغ ورتابة تدعوه الى اختصار بقية النص مستعيناً بمقولة محلية. فالالتفات إلى فعل الكتابة يحمل وظيفة مزدوجة فهو حيناً التفات جمالي، يولّد صوراً جميلة ففيه استعارات وتشابيه ومعانٍ جديدة ولكنه يعبر في هذا المستوى عن حماس الشاعر لمشروعه الشعري الذي ظل مشتبكاً دوماً. وحيناً آخر يغدو التفاتاً نقدياً يعبر عن هموم الكتابة ومعاناتها...
2 ــ سؤال الشعر:
لا يقتصر هذا الخطاب على سؤال الكتابة بل يتوسّع نحو أسئلة الشعر. فأولاد أحمد يبدو في بعض نصوصه منظّراً للشّعر محاولاً تقديم نظرة مختلفة، مدافعاً عن الشاعر ومكانته. فها هي النصوص الأولى في الوصية تهتم بالشعر اهتماماً لا يخلو من السخرية. فتلك النصوص المعنونة بتقوّلات على الشعر/ بغاية رفع المعنويات/ من يقف في ظل الشاعر، تعتبر دفاع الشاعر عن ذاته بصفة خاصة وعن الشعراء بصفة عامّة.
يلتحم الخطاب «الميتا سردي» في هذا المجال بالمقولات النظريّة وينشأ في ظلها. من ذلك هذا المقطع الذي يوظف فيه مقولة «أعذب الشعر أصدقه» وهو مقطع يتعلق أساساً بسوء فهم الفعل الأدبي وضبابية مفهوم التخييل. فالشعر يواجه سوء الفهم.
«نجتهد دائماً في أن تكون أكاذيبنا قابلة للتصديق
ومنتجة للتصفيق على الذي نرفع معنوياته أن يرفع
معنوياتنا أيضاً
ما من كذبة أخرجناها للناس نحن ظلال الظل
إلا رفعوها إلى مرتبة الحقيقة...»
ويطرح الشاعر في بعض مقاطعه تعريفات مختلفة للشعر تخرج به من مفاهيمه التقليديّة:
«ما الشعر في النهاية؟
لنقل
إنه تخمين لغوي
هدفه
إعانة السلطة على السقوط...»
فإذاً مفهوم الشّعر يغدو في هذا المجال مفهوماً يجمع بين اللغة والسلطة. فهو تحريض السلطة على نفسها. ولعل هذه التعريفات تدخل طبعاً ضمن هواجس الصراع مع السلطة التي يدور حولها القول الشعري في تجربة أولاد أحمد. وتعبر بعض المقاطع عن تصوره للكتابة الشعرية مثل هذا المقطع الذي يرى القصيدة شعراً ونثراً:
«عندما أسمع أن على القصيدة
أن تكون شعراً كلها
أحتجّ مع جدنا النحوي...»
أو هذا المقطع من قصيدة «شاعر عمودي يلوم نفسه» الذي يبدو فيه ساخراً من القصيدة العمودية:
«شاعر عمودي يلوم نفسه
لقد رحلوا:
تاركين قصيداً على جلد عنز
وعقبة يحبو
وفي ذهنه فكرة القيروان».

3 ــ الصّوت الناقد ساخراً:
يمارس هذا الصّوت الناقد باستمرار سخرية وتهكماً من مكوّنات السّاحة الثّقافيّة، مشيراً بذلك إلى ظواهر مختلفة. فهو يسخر من شعراء السلطة ونمطيّتهم وطموحاتهم، مبرزاً ضآلة قيمتهم على غرار ما يكتبه في قصيدة «كبير الشعراء»:
«قبل أن يدخل للحزب كبير الشعراء
حلق الشارب والشعر وزار الأولياء
وتمنّى وهو عار بين أحجار البخور
أن يموت الفيل فجراً ثم باقي الشعراء
دخل الحزب –كما النملة- من ثقب صغير
وهو يمشي كان نعل فوقه ضخم يسير
بعد أن ديس مراراً في الممرات ومات
قالت النملة شعراً في كبير الشعراء...»
ويسخر الشاعر أيضاً من النقاد والجامعيين، ملمّحاً إلى طابع التكسّب الذي يميّزهم، مخاطباً محمود درويش:
«أعرف دكتوراً في إحدى الجامعات
اشترى سيارة «رولس رويس»
بأجرة تدريس ثلاثة أبيات من قصيدك «أحمد الزعتر»
وأعرف آخر
زوج ابنته من ناقد كلاسيكي بأجرة الأبيات
ذاتها» (حمائم إلى محمود درويش)
بل ويبدو الشاعر ساخراً من المشهد الثقافي برمّته على غرار ما يقوله في قصيدة «سعداء»:
«سعداء بأهل الثقافة
يستصلحون الزوايا
ويستنسخون الطرق».
ولعلّه يمكننا القول إنّ الصّوت الناقد يسهم بفاعليّة في بناء التجربة الشعريّة لأولاد أحمد. فهو صوت يعبر عن مواقفه من الكتابة والشعر ومن المشهد الثقافي عامة. هذا المشهد الذي كان الشّاعر صوتاً مشاكساً فيه ومحدثاً ضجيجاً كثيراً، رافعاً راية الاحتجاج الثقافي ومعاكساً للخطاب الثقافي الرّسمي.

* باحث وأكاديمي تونسي