تقدّم الدراما المصرية سنوياً أعمالاً كثيرة في رمضان، تكاد تكون الأهم عربياً على صعيد النص والأداء والجودة الفنية. أبرز ما يميزها استمرارية صنّاع الدراما ومحاولة التطوّر وتقديم مواد تواكب حركة الدراما المعاصرة. إلّا أنها ما زالت مقيّدة بالموسم الرمضاني ونظام الثلاثين حلقة الذي قد يقلّص جودة العمل بسبب البنية الطويلة التي تتطلّب أحداثاً كثيرة. من الأعمال المنتظرة والمتابعة شعبياً هذه السنة، مسلسل «المشوار» (بطولة محمد رمضان ــ تأليف محمد فريد ـ إخراج محمد ياسين). أعمال محمد رمضان منتظرة دوماً جماهيرياً، بسبب الحكاية المتشابهة في أعماله. حكاية تناقش عادةً فكرة الظلم للإنسان الخيّر، وسعيه الدائم لتحصيل حقه. هذه الفكرة تلاقي دوماً احتفاء شعبياً، لكن هذه السنة، تبدو الحكاية مختلفة بعض الشيء. يسرد المسلسل حكاية ماهر وزوجته ورد الفقيرين. ضمن سياق المسلسل، يستحوذان على قطع آثار تقدّر بملايين الدولارات، عبر سرقتها من منزل أحد الأغنياء (وجيه) التي كانت ورد تعمل خادمةً عنده. تبدأ الحكاية بهرب ماهر وزوجته وتنقّلهما من مكان إلى آخر، هرباً من رجال وجيه الذي يُقبض عليه بعدما وجدت الشرطة قطعاً من الآثار المفقودة في منزله. تتّضح الحكاية تباعاً، لنكتشف أنّ ماهر هو من أخبرَ عن وجيه، كي يقصيه من طريقه ويستطيع التصرف بالقطع.

أداء محمد رمضان بقي محافظاً على النمطية بسبب مسلسلاته السابقة

ما زالت الحكاية في منتصفها، إذ وصل ماهر وزوجته إلى منزل صديقة ورد التي تعمل في الغناء والرقص، وبدأ بإيجاد طرق لتصريف قطع الآثار عن طريق أهله في الصعيد. قُدمت الحكاية بطريقة مليئة بالتشويق والغموض. في الحلقات العشر الأولى، تُطرح أسئلة طيلة الوقت عن سبب هرب ماهر وزوجته، وما يوجد بداخل الحقيبة التي معهما وهوية الذين يلاحقاهما. ومع بداية الثلث الثاني من المسلسل، يُقدم التشويق بعناصر مختلفة مرتبطة بأسئلة عما سيحدث وكيفية نجاتهما وسط كل العقبات التي يواجهانها، آملين أن تأخذ الحكاية ملامح غير متوقعة كي يحافظ العمل على خطه الدرامي المتماسك، وعلى حكاية خاصة وغريبة لا تتشابه مع حكايات رأيناها كثيراً في أعمال أجنبية سابقة.
ما يميز العمل هو اختلاف تقديم الشخصية التي يلعبها محمد رمضان. كما ذكرنا سابقاً، كان يلعب دوماً شخصية خيّرة في المطلق، تسعى لتحصيل حقها. أما في «المشوار»، فتتسم الشخصية بملامح الخداع والسرقة والدهاء، ويكاد أن يفعل أي شيء كي يحقق غايته. وهذا ما خلق عنده صراعاً داخلياً، ما بين خياره بسرقة قطع الآثار والطريق الذي تحتّم عليه سلوكه، وما بين معاييره الإنسانية الذي بدأ بالتخلي عنها، عندما قبل أن يقيم عند المغنية وزوجها الذي يتحرش بزوجته أمام عينيه.
لكن أداء رمضان بقي محافظاً على النمطية التي تكسّرت في عقولنا بسبب مسلسلاته السابقة. قدّم الشخصية عبر الكاركتير القوي المؤمن المظلوم، وعندما يظهر بملامح الخداع والكذب، يقدمها بطريقة سطحية لا تحمل عمق الشخصية المكتوبة وصراعاتها ومفرداتها. كما أن العمل مقدم بطريقة إخراجية سينمائية مبهرة في بعض المشاهد، وهذا ما يميز أسلوب محمد ياسين الذي تولّى سابقاً إخراج مسلسل «أفراح القبة». هو دائماً ما ينصف الكاميرا ولا يقدمها بطريقة خدمية فقط، إنما تحمل كاميرته جمالية عالية في تصوير الأماكن المختارة أو بطريقته بصناعة المشاهد المهمة والمؤثرة.
يناقش العمل الصراع الطبقي، وتخلّي الإنسان الفقير عن قناعاته ومبادئه الأخلاقية والإنسانية


وهذا ما يظهر لنا منذ بداية المسلسل، بتصوير مشاهد حقول الملح التي يعمل فيها ماهر. نراه منذ البداية بفضاء أبيض جميل، لكن مالح، يحمل بدلالاته ما ستكشفه الحكاية لاحقاً، كما يجب ذكر المشهد الذي يهرب به ماهر وزوجته من رجال وجيه عبر دخولهما وسط فرح اسكندراني شعبي. تتداخل في المشهد جمالية العرس الشعبي وتشويق المطاردة التي تحصل، كأنّ المخرج يقدّم الناس والأحياء الشعبية كملاذ آمن يمكنه أن يحميك دائماً.
كثيرة هي المشاهد الجميلة التي تحمل دلالات كثيرة، وآخر مشهد سنناقشه، هو مشهد حديقة الحيوان، عندما نكتشف ماذا يوجد في الحقيبة. مشهد تبدأ دلالاته الجمالية بالإضاءة السينمائية التي تصوّر المكان بطريقة تغريبية، تجعلنا نرى هذا المكان المعتاد بطريقة مختلفة. سيتوّج ماهر زوجته ورد وينصبها كملكة مثل كليوبترا، لنرى ترابطاً عميقاً ما بين التاريخي والمعاصر، والسعي للحياة الكريمة عبر بيع التاريخ. لعل هذه الثنائية هي العقدة الأكبر في المسلسل.
يناقش المسلسل الصراع الطبقي، وأحقية القوة التي تخوّل الإنسان العمل في أعمال غير قانونية، كما يطرح الثمن الغالي الذي يمكن أن يدفعه الإنسان الفقير عندما يحاول أن يعيش بالطريقة نفسها التي تعيش فيها الحيتان الكبيرة. ستتركه لعنة النقود بلا منزل وبلا آمان، وبلا عائلة وحتى بلا شرف، متخلياً عن كل معاييره الأخلاقية الذاتية والإنسانية. لكن هل سيحافظ على ما تبقّى لديه؟ هل سينجح في تحقيق غايته بدون أن يفقد ذاته تماماً؟ هذا ما ستكشفه الحلقات القادمة، آملين ألا يفقد المسلسل جودته عبر تطويل الأحداث لصناعة ثلاثين حلقة.

* «المشوار»: 21:10 على قناة dmc