«حين رأينا الشمس بلا قضبان» هكذا كان جواب أحد أبطال «نفق الحرية» في سجن جلبوع على المحقق الذي سأله: «كيف عرفتم أن حفر النفق قد انتهى؟». ربما هكذا أيضاً يكون جواب الفن على أسئلة تتعلق بالسجن، ومعنى أن تحفر طرقاً فنية مختلفة لتأمّل تلك الحياة المثقلة بالألم. لم يكن الفن يوماً بعيداً عن ثيمة الأسر، لكنّ اللافت أن تأخذ هذه الثيمة أشكالاً متعددة من التعبير بأساليب فنية مختلفة وواسعة. هنا يكون الفن أكثر من مجرد توثيق للألم والمعاناة، بل هو دخول إلى تلك الفضاءات المعتمة، وتأمل كمّية الجمال والضوء الذي تحتويه، ليرتسم سؤال آخر عن معنى الجمال في حضرة الألم وعمق الرحلة الشخصية والنفسية التي يمضيها الأسرى لرسم عمق الحرية... فتصير الحياة نفسها نفقاً طويلاً نحو ذلك الضوء.
منذر جوابرة

في المعرض الجماعي الذي تحتضنه «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» كتحية لأسرى الحرية، يبدو سؤال السجن مفتوحاً على أسئلة كثيرة وعلى فضاءات مختلفة، بدءاً من رسم القضبان، وصولاً إلى استحضار رموز كثيرة كانت غائبة عن اللوحات الفنية، كالملعقة والأكياس والنباتات والصوف والساعة التي تمثل الوقت الذي يصبح له معنى آخر داخل السجن. وهنا يبدو أن السجن لم يعد مجرد قضبان أو حياة منسيّة ومقيدة، بل انفتح على معنى الحرية وتقديس الوقت وتأمل الألم الإنساني الذي هو بحد ذاته مضمون واسع ومنفتح. يشارك في المعرض فنانون فلسطينيون وعرب وعالميون، هم: أسمى غانم (فلسطين)، أمجد غنام (فلسطين)، إنغريد روليما (هولندا)، أيمن بعلبكي (لبنان)، إبراهيم المزين (فلسطين)، بشار الحروب (فلسطين)، بشير مخول (فلسطين/ بريطانيا)، جواد إبراهيم (فلسطين)، حاتم غرايبة (فلسطين)، خالد جرار (فلسطين)، رؤوف كراي (تونس)، رائد صلاح (فلسطين)، رائد عصفور (الأردن)، سوزان غروثيس (هولندا)، سيروان باران (العراق/ لبنان)، شادي الزقزوق (فلسطين/ فرنسا)، عامر الشوملي (فلسطين)، عاهد إزحيمان (فلسطين)، عبد الرحمن قطناني (فلسطين/ لبنان)، عيسى ديبي (فلسطين/ جنيف)، ماريا منريك (إسبانيا)، محمد أسعد سموقان (سوريا)، محمد صالح خليل (فلسطين)، منال محاميد (فلسطين)، منذر جوابرة (فلسطين)، ميثم عبدال (الكويت)، هانس أوفرفليت (هولندا)، هاني زعرب (فلسطين/ فرنسا)، هدى فودي (فلسطين/ سويسرا)، يزن أبو سلامة (فلسطين)؛ بالإضافة إلى 13 ملصقاً ذات صلة من أرشيف المؤسسة وأرشيف «دار النمر» في بيروت.
هكذا يرسم الفنان الفلسطيني والأسير السابق أمجد غنام رجلاً داخل إطار يحيطه مقطع من قصيدة لإبراهيم نصرالله. ينظر هذا الإنسان إلى الأعلى، ويمدّ يده نحو قمر في السماء تحاصره أسلاك شائكة. يبدو أن هذه الأسلاك لا تحاصر الإنسان، بل قمره. رسم أمجد غنام لوحته «بطاقة» في سجن جلبوع، ويبدو هنا أن القضبان حاضرة لا لتقيد الإنسان، بل العالم في الخارج. نتساءل هنا عن معنى أن يرسم الفنان نصاً داخل الغرفة الصغيرة، ربما ليكون هناك وجود خاص مفتوح على اللغة والكتابة والقراءة التي أصبحت جزءاً مهماً من بيئة السجن وأجوائه، لا بل محرضاً أساسياً على فكرة الحرية.

ميثم عبدال

تظهر أيضاً عصبة الوجه التي استخدمتها سلطات الاحتلال في تعصيب عيون الأسرى، في لوحة جواد إبراهيم «عين تحدق في القاتل». هنا نختبر معنى القيد على الرؤية، ومعنى أن لا تبقى أسير النظر، لكنّ المفارقة هي النظر بعين واحدة على القاتل... عين من تحت العصبة لا تخاف المواجهة.
أما الفنان الفلسطيني منذر جوابرة، فقد استخدم في عمله «زمن مكسور» خيوط الصوف كمادة كانت تُستعمل لإنتاج أعمال فنية ومشغولات يدوية داخل السجن يهديها الأسرى لأهاليهم خارج السجون، في محاولة منهم لإشغال الوقت والتحايل على الروتين والملل. تشبه هذه الخيوط قضبان السجن، لكنها في الوقت نفسه، مادة هشّة تنخدش بسهولة، ما يعطي معنى بأنّ السجن زائل لا محالة. رسم جوابرة أرجوحة يجلس عليها رجل معصوب العينين. صحيح أنّ الأرجوحة مستحيلة داخل السجن، لكنّها في عمل جوابرة تشكّل المحرض على الخيال، والبراءة التي يحاول السجّان قتلها وإخفاءها.
يحضر نبات الصبّار في عمل عامر الشوملي. تلك الصبارات التي كانت زاد أبطال سجن جلبوع في طريقهم نحو الحرية، كما رأينا في عمله «الكيس» الذي كان يستخدمه السجان في السجن. وحضرت شجرة الزيتون في عمل عبد الرحمن قطناني «شجرة الزيتون» حيث استخدم الفنان الأسلاك الحديدية كما يفعل عادةً في معظم أعماله السابقة. وهي هنا بالطبع تذكّر بالأسر، لكنّنا سننتبه إلى أنّ الأسر أكثر من أسر للإنسان، بل للطبيعة أيضاً، وما تتعرض له من عنف من قبل الاحتلال. هكذا كانت أيضاً «وردة الحرية» التي رسمتها منال محاميد، وهي وردة حمراء تشبه شقائق النعمان. يجعلنا حضور هذه النباتات نطرح أكثر من سؤال عن استحضار مواد جديدة لرسم معنى الحرية، ربما ليست موجودة داخل السجن، لكنها موجودة في العالم الخارجي، في فضاء الحرية التي سينطلق إليها الأسير. ومن تونس، جاء عمل رؤوف كراي أكثر من حركة تضامنية. ففي اللوحة ستة طيور تخرج من النفق. ربما أصبح النفق مكاناً جديداً يضاف إلى جغرافيا السجن. ورغم أن الطيور هي عادة رمز للحرية، لكن خروجها من النفق هو ما يجعل العمل لافتاً وغريباً. هكذا كانت أيضاً أعمال سيروان باران، إذ قدم منحوتتين لرجلين منحنيين يلتصقان بعَمود كأنهما مصلوبان. هنا تبدو الصلابة المتمثلة بمادة النحت (البرونز) مقترنة بالهشاشة الإنسانية والألم وهي حالة إنسانية داخل السجن. تحضر أيضاً الملعقة في منحوتة ميثم عبدال «ملعقة الحرية» في قبضة يد متماسكة كأن الملعقة هي سلاح في يد قوية تصر على الحرية.
لا ننسَ طبعاً المحطة الأخيرة التي يصل إليها الأسير وهي «الضوء» وهو حاضر في أعمال التشكيلية الهولندية انغريد روليما، التي صوّرت في عملها التجهيزي «الرصاص المصبوب» ضوءاً يخرج من الشاشة بينما تملأ المشهد باللونين الأزرق والأسود. ربما يذكرنا هذا بالضوء آخر النفق في رحلة الأسرى الستة.

عامر الشوملي

في لوحة هاني زعرب «داخل الوقت»، تظهر الساعة في منتصف الرئتين، كأنّ الأسير يتنفس الوقت داخل السجن. كأن الوقت عنصر مهم داخل السجن، والقدرة على تمضيته بأنشطة تجعل دقائق وساعات السجن لها معنى. وجوده بين الرئتين يعكس معنى الانتظار الطويل حيث الأنفاس التي تروح وتجيء بينما يمضي الوقت متمهّلاً.
لكنّ عمل الأسرى داخل السجن مهم ومثمر، بالإضافة إلى قراءاتهم وتجربتهم، فها هم يصلحون الخراب برؤيتهم العميقة للتحرر، فتأتي لوحة الشيخ رائد صلاح «نصلح الخراب» كأنها إجابة على سؤال: ماذا يفعل الأسرى داخل السجن؟ ههنا نتعرف إلى الشيخ رائد صلاح رسّاماً، فيرسم الشيخ صلاح أثناء وجوده داخل السجن فلاحاً يحمل معولاً في يده ويعطينا ظهره وهو يتأمل أرضاً تمتلئ بأشجار مقطوعة وعارية.
يتضمن المعرض أيضاً لوحات لإبراهيم المزين «أحرار» الذي يصوّر تسعة أسرى داخل السجن، ولوحة أيمن بعلبكي لرجل ملثم يلبس قناع الحماية من الغاز، فنتذكر أشكال التعذيب بالسموم القاتلة. ومن خلال فيلم قصير، يعرض بشير مخول ما يتعرض له الأسرى لدى استجوابهم من تعذيب وحشي. وتظهر أيضاً البوسطة في لوحة عاهد ازحيمان من دون أن يرسمها، فنرى مشهداً لما يمكن أن يراه المعتقلون من خلال الثقوب الصغيرة.
يأتي المعرض كتحية مهمة للأسرى تعكس معنى التضامن، كما فكرة أنّ للحرية أسئلة وفضاءات إنسانية تصل إلى العالم.

* معرض «تحية لأسرى وأسيرات الحرية»: حتى نهاية نيسان (أبريل) ــــ من 12 ظهراً حتى 6 مساءً ما عدا أيام الأحد ـ قاعة «الكلمة الرمز فلسطين» في مبنى «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» (فردان ـــ بيروت) ــــ palestine-studies.org