انطفأ ليل أول أمس في بغداد، حسب الشيخ جعفر (1942- 2022)، الشاعر الذي لطالما اختار الانزواء والزّهد والعزلة، بعيداً عن النيونات البرّاقة التي جذبت أبناء جيله من شعراء الستينيات إلى الواجهة. إذ بقي اسمه خارج التداول العمومي، رغم أهمية تجربته وفرادتها التي تُضاهي تجارب مجايليه أمثال سعدي يوسف، وسركون بولص وفاضل العزاوي وآخرين. الشاعر الذي خبر أمكنةً كثيرة في العيش، صنع مراياه الخاصة بتمائم وتعاويذ وأساطير الجنوب العراقي في حفريات إيقاعية مشعّة وغنائية مغايرة، هي ترجيع لذاكرته القروية أولاً، ووعيه الشعري اللاحق ثانياً، معززاً حضور الذات في بناء نصّه المشبع بالإشارات الميثولوجية والحسيّة، ومفترقاً عن الشعراء التموزيين نحو مغامرة أكثر احتداماً وتمرّداً. كان ديوانه «الطائر الخشبي» (1972) على نحوٍ خاص، مكمن دهشة لجيل من الشعراء والقرّاء، لجهة القطيعة والتقويض والتهشيم، معزّزاً حضوره بمذاقٍ مختلف، في تلك الهجنة الإيقاعية والرنين الخاص في ابتكار فضاءات شعرية مفارقة تعمل على فحص القلق والاغتراب ومشهديات الذاكرة المرتحلة ما بين أمكنة تمتد من الجنوب إلى موسكو وعمّان وبغداد.
بورتريه الشاعر بريشة العراقي علي المعمار

هكذا دوّن صاحب «زيارة السيدة السومرية» تاريخه الشخصي من موقع الظلّ، ما أبعد اسمه عن التداول بالمقارنة مع أسماء آخرين عبرت الحدود باكراً. وتالياً فإن شعرية حسب الشيخ جعفر تكمن في تلك النبرة الخافتة التي تشبه صاحبها وحيرته ما بين أمسٍ مثقل بالشجن، وراهن وضعه في مهبّ الرغبات والشغف، وشهوة العيش في ما مضى، فالحياة هي ما عاشه قبلاً لا ما آلت إليه، مكتفياً بمخزونه المعرفي في إرواء عطشه الجمالي إلى نصّ مركّب ومثقل بالاستعارات و«الفتوحات الحسيّة»، بردم المسافة بين أمكنته الأولى والعيش في موسكو، وتشبّعه بتجارب الحداثة العالمية، فكانت ترجمته لمختارات من أشعار بوشكين وماياكوفسكي وآخماتوفا انتباهةً نوعيةً لاحتضان ثقافة الآخر ومزجها في مقترحه البلاغي، بوصفه شاعراً منشقّاً في المقام الأول، وأسيراً لهزائم ومنافٍ قادته لاحقاً إلى عزلة طويلة في تأمّل «الجمال الهارب»، وإعادة تشكيل الخزف السومري المهشّم، و«القبض على الزمان والمكان وتهشيمهما أو المزج بينهما» يقول. مغامرة نأت عن روح السيّاب كواحد من أسلافه الأوائل نحو تضاريس أكثر اتساعاً ورحابة، كما مزجت بين رعوية يسينين وتمرّد ماياكوفسكي، وغنائية بوشكين.
تجربته تُضاهي تجارب مجايليه أمثال سعدي يوسف، وسركون بولص وفاضل العزاوي

لكن صاحب «تواطؤاً مع الزرقة» لم يأنس إلى حطبٍ دائم لموقد ناره، محاولاً إشعال أشجار الغابة كلّها بجمر التجربة، غير عابئ بهبوب الريح خارج ذاته المنهوبة والعزلاء. لا تكمن أهمية صاحب «أعمدة سمرقند» في ابتكاراته الشكلية فقط في تطوير الشعرية العربية، إنما في اختباره ما هو مخبوء ومهمل وجواني، وتثويره إيقاعياً وبصرياً نحو تخومٍ سردية تقع في منطقة غامضة وملتبسة تبدو في المآل الأخير تحصيلاً لحياة شخصية قلقة وخفرة وانطوائية، نأت بعيداً عن صخب الموائد النقدية إلى حدود أن يتساءل كثر اليوم: لكن من هو حسب الشيخ جعفر؟ ولمَ كل هذه المراثي؟