ربما كان هذا عام 1976، حينما حدثني كمال سبتي عن شعر حسب الشيخ جعفر، وحاول أن يوضح لي أهميته، خصوصاً في قصائده المدورة. لم أكن وقتها أجيدُ قراءة هذه القصائد، رغم أنّ محتواها الاجتماعي السياسي كان مغرياً لشخص قروي مثلي، فهي تناغي غربتي في المدينة وتجعلها محتملة، بل شعرية أيضاً. لكن أول مجموعة اطّلعت عليها هي «زيارة السيدة السومرية» (1974) التي كانت ربما أكثر إيغالاً في حياة المدينة، في زواياها الأكثر حميمية، المطاعم، البارات وضبابها، بل عتمتها التي لم أكن أعرفها، سيداتها، مطارات المدن، أحلام يقظتها التي كانت تنقلّك بين موسكو وبغداد... عالم أقلّ ما يُقال إني لم أكن أعرفه، أو حتى أتخيّله، فكان يأخذني في حالة سرنمية جديدة كل الجدّة.لكن بالعودة إلى مجموعته السابقة، «الطائر الخشبي» (1972) التي اقتنيتها بتاريخ 9/3/1976 (ما زالت بحوزتي، رغم رحلاتي التي تجاوزت الأربعين عاماً خارج العراق)... هناك، أمكنني التعرّف إلى بعض تجربته في القصيدة ما قبل المدوّرة، (مجموعته الأولى «نخلة الله» (1969) اطلعت عليها متأخراً جداً، فيها يبدو تأثير السيّاب والبياتي بشكل واضح، ولو أن قصائده تميّزت بالكثافة والمعرفة التامة بصنعة الشعر، على عكس الإسراف الذي ميّز الكثير من قصائد السيّاب والبياتي).
كانت قصائده الموسومة «الرباعيات» وغيرها ربما أرفع قصائده المدوّرة، والتي توزّعت بين مجموعتَي «الطائر الخشبي» و«زيارة السيدة السومرية»، لكن أيضاً قصائده الأخرى التي حملت عناوين مثل: «قارة سابعة»، وقد حفظت بعضها عن ظهر قلب، وأيضاً بقية قصائده المدوّرة وجميع قصائد مجموعته «زيارة السيدة السومرية». بقيت أبيات هذه القصائد تطفو في خيالي، كأنها ثمالة لا تنتهي...
في ما بعد في ألمانيا، استعدت مراراً وتكراراً قصيدته «الإقامة على الأرض» (وهو أيضاً عنوان مجموعات شعرية للشاعر التشيلي بابلو نيرودا، لكنهما فقط يشتركان بالعنوان لا غير). هي التي جعلت العالم أكثر وضوحاً بالنسبة إليّ، وصرت أطرح السؤال على نفسي: ابن جودة هذا من يكون؟ وكيف دُفن في برلين؟
وهو لم يكن سوى خلف بن جودة، رفيقه الحزبي وصديقه الذي مات ودُفن في برلين الشرقية.
«... بمقبرةٍ خلف برلين يرقدُ طفلٌ من النخلِ، قيلَ:
استراح ابنُ جودةَ، هل يذكرُ السرو، منحياً،
فوق قبر ابن جودةَ طفلين في النخلِ يحتطبانِ؟..»
لكن قصيدة تالية في مجموعته «زيارة السيدة السومرية»، هي «توقيع»، فيها يتجلّى ما هو اجتماعي، ولكنه سياسي حتماً، تلك التركة، التي نعيشها في كلّ الأزمان والبلدان، ليس العراق فحسب. وقد نجح الشاعر في تقديمها شعرياً لنا:
«.. أمام العياداتِ أُبصرها كلَّ يومٍ، مكومةً تحضنُ
ابنتها، ترمقُ العابرات الأنيقاتِ، يخفقُ
منزلُها المتهالكُ في قريةٍ من دخان وقش:
تعدُ لنا الشاي، يأتي لنا زوجُها بالبريد
السياسي من عتمة النخلِ، في آخر الليل
نتركُ في بيته بعضَ أسرارنا أو نناقشُ
مسألة الريف، مرتعشين من البردِ حولَ
السراج الهزيلِ...»
بلهفة، قرأتُ مجموعته اللاحقة «في الحائط... عبر المرآة» (1977)، لكن حتى بعد قراءات تالية ولاحقة، لم أستطع التفاعل معها كثيراً. وقتها، بدا لنا كأن عبد الوهاب البياتي قد تزيّا بقصيدة حسب الشيخ جعفر. قصائده في «قمر شيراز» وغيرها. كأن الأستاذ يُقلّد تلميذه، هي الدليل الأسطع على ذلك. حتى بعض قصائد سعدي يوسف، رغم أنّ حسب الشيخ جعفر في الكثير من قصائده المدوّرة، بدا كأنه قد استلهم قصيدة سعدي يوسف المعروفة ببساطتها، «السهل الممتنع»، وكأنها حكاية من الواقع اليومي.
ربما أبرز من تأثر بحسب الشيخ جعفر من الشعراء العراقيين التالين، هو كمال سبتي، وقد حاول أن يعطي نسقاً مختلفاً لقصائده، ولغة أخرى، لكنها بقيت مخلصة لقصيدة حسب الشيخ جعفر المدوّرة، حتى في التفاصيل الصغيرة، وإن كانت قصائد سبتي تجريدية تقريباً، ومثل حسب، عاد إلى قصيدة التفعيلة المحكمة في ما بعد. مجموعته الأخيرة: «صبراً، قالت الطبائع الأربع» (2006) خير دليل على ذلك. في ما بعد، اكتفى حسب الشيخ جعفر، وربما تحت تأثير الأحكام، لا الحكمة، التي فرضتها الأوضاع السياسية السائدة وقتها في العراق، بمساهمات بسيطة، ولكنه ركّز على ترجماته الشعرية عن الروسيّة التي تقدح شرراً في خيالنا وقتها، حينما نشر بعضها في المجلات الأدبية أو ككتب، لكن في ما بعد لم أجدها بالمقنعة، أو تحمل ذلك الشرر الذي توهّمته وقتها. على عكس شعورنا حين نقرأ ذات القصائد بترجمات في لغات أخرى، الألمانية مثلاً.
عام 2004، زرته للمرة الأولى والأخيرة برفقة الشاعر حسين علي يونس في بيته في مدينة الثورة العراقية (هذا اسمها الأول وهي من ضواحي بغداد، وقد تغيّر اسمها إلى: مدينة صدام، وفي ما بعد إلى مدينة الصدر). أخبرني أنه يقارن ترجمات سامي الدروبي (التي أنجزها عن الفرنسية لروايات فيودور دويستويفسكي كأنه ترجمها عن الروسية).هنا ربما فهمت سبب عوق ترجماته الشعرية عن الروسية أو ربما أنا مخطئ؟

* شاعر عراقي وناشر «الجمل»