في الثالث من شباط (فبراير)، تغني كريمة الصقلي (1963) على خشبة «قصر الأونيسكو» في بيروت، بمرافقة «الأوركسترا الوطنية اللبنانية للموسيقى الشرق ــ عربية» بقيادة المايسترو أندريه الحاج (راجع مقال الزميلة ساندي الراسي). فرصة يلتقي فيها الجمهور، بصوت ما زال يؤمن بأن للأغنية الطربية أصواتاً ترتفع وتتميز داخل موسيقى عربية شعارها الصخب والاستهلاك. تقف «سيدة الطرب المغربي» مجدداً على خشبة اليونسكو، حيث تقدم أغنيات رسختها كواحدة من نجمات الموسيقى الطربية العربية. قدمت الفنانة عبر العالم، زادها في تلك الرحلة كان ربيبرتواراً من الموسيقى الطربية يسحر المستمع. من «أنا قلبي دليلي»، و«ليالي الأنس»، هي التي لقبت بـ «أسمهان العصر»، وأغنيات أم كلثوم إلى قصائد المتصوفين والشعر الأندلسي، الرقيق المعنى والمبنى، تقدم كشكولاً من الأغاني خلال حفلاتها. رقة الفنانة المتحصنة بهذا الدفق من الحنين إلى موسيقى النصف الأول من القرن العشرين، وإلى ثقافة عربية قديمة، تطالعنا في أغنيات ما زال يحفظها حفدة الموريسكيين في شمال أفريقيا وتهديها إلى جمهورها البيروتي. لا تخفي الصقلي عشقها لكبار الموسيقى الطربية من أمثال سيد درويش، ومحمد القصبجي، ورياض السنباطي، وزكريا أحمد. مع زكريا أحمد، كانت بداياتها الفنية. قدّمت واحدة من أغانيه خلال مشاركتها في برنامج على التلفزيون الوطني المغربي، لاكتشاف مواهب الغناء. انتبه لها الملحن وعازف العود المغربي سعيد الشرايبي. أصغى باهتمام لهذا الصوت المختلف، وتبين فيه موهبة صاعدة في سماء الفن المغربي. أخذها تحت جناحه، وساعدها على سير خطواتها الأولى في طريق الفن. انضاف إلى هذا الثنائي الشاعر عبد الرفيع الجواهري. الرجل الذي كتب أغنيات صارت أساطير في الموسيقى المغربية كـ «راحلة» و«القمر الأحمر» في مراهقته وسنوات شبابه الأولى، كتب كلمات للصقلي، لحنها الشرايبي، وكانت هنا البدايات الأولى لتجربة ستمتد وتُجرب وتبتكر طيلة عقود. ورغم بدايات مميزة في المغرب، إلا أن تجربتها ظلت محدودة، بحكم غياب التسويق الكافي لتقرر أن تسير في طريق الهجرة إلى الشرق.
على البرنامج «يا ليل طل» و«اسكنيها»، و"يا نسيم الريح"، و"الورد جميل"...

موسم الهجرة إلى مصر أتى أكله. انتقلت الصقلي للعيش في القاهرة خلال التسعينات من القرن الماضي. هناك ستغني في دار الأوبرا ثم ستعزف إلى جانب أسماء فرضت نفسها كأهم التجارب الجديدة في الموسيقى من قبيل نصير شمة. كانت هذه هي بداية الشهرة العربية التي جعلتها إحدى الديفات في الغناء الطربي مع مرور الحفلات والسنوات.
بعد هذه العقود من الغناء، لم تستسلم كريمة الصقلي للاستسهال. ظلت متمترسة في جو الطرب، مديرة ظهرها للموضات الموسيقية المغرقة في ثقافة الاستهلاك كيفما كانت تعبيراتها. هي تنتصر لتعبيرية، خفتت منذ عقدين بعد تسونامي الأصوات المعجونة بالبوتوكس، وثقافة الجسد العاري الاستهلاكية. تعبيريتها الصارمة، والمتطلبة، لا تهادن هذه التجارب «السوقية» كما تصفها. تشتغل الصقلي طويلاً على الألحان، والكلمات، في شراكة مع فنانين كبار وشباب، قبل أن تخرج أي قطعة موسيقية جديدة. صوتها يجمع بين العمق والعذوبة. إنه صوت يستطيع أن ينوع بين الطرب والأوبرالية والدرامية والخفة الإيقاعية من دون أن يغفل العمق. تجد الصقلي في التراث ما يغويها ولا تكل عن العودة إلى أغنيات صنعت تاريخ الموسيقى من أجل إعادة اكتشافها، ومنحها أبعاداً جديدة. إنه العودة الواعية إلى الأصول، من أجل استشراف أفق جديد للغناء العربي الأصيل.
ورغم أنها أدت ببراعة أغنيات أسمهان، وأم كلثوم التي قدمت ألبوماً من إنتاج «معهد العالم العربي» في باريس يستعيد أغانيها، فإنها تؤكد أنها تعطي طابعاً جديداً لهذه الأغاني. يبدو أن سر نجاحها أنها لا تكتفي بترديد الأغاني، بل تمنحها ما يكفي من روحها وإبداعها، وصوتها القوي والعذب في آن. إنها القدرة على استبطان روح هذه الأغاني، وجعل أغصانها تذهب نحو إمكانيات تعبيرية جديدة. كما الشجرة المنغرسة في تربة خصبة، تكبر المغنية، وتمد صوتها نحو سماوات أخرى. ورغم إكراهات الإنتاج والتوزيع في العالم العربي، التي تدفع بالمغنين إلى اختيارات محددة، تستهدف السوق، أكثر منه الذائقة الفنية، فإن الصقلي أصرت على الاستمرار في نهجها مفضلة الانتشار المحدود، بين متذوقي الموسيقى على أن تقدم ألبوماً كل سنة لا يمت لها ولا لثقافتها الموسيقية وتحيي مئات الحفلات من دون جدوى غير الربح المادي.
هذا الاختيار الذي كان صعباً في البداية أتى أكله. صارت كريمة الصقلي من أبرز الأصوات التي تقدم عروضها عبر العالم. هكذا تشارك بشكل دوري في كبريات المهرجانات العربية، وتحيي حفلات عبر مدن العالم من باريس إلى لوس أنجليس وفيينا ومروراً بقرطاج ودمشق ودبي والرباط واللائحة تطول. حفلات تنشر فيها رسالة وحيدة هي الحب: للموسيقى واللغة والثقافة والإنسانية.

أمسية كريمة الصقلي: الأربعاء 3 شباط ــ الساعة الثامنة مساءً ــ مسرح «قصر الأونيسكو» (بيروت). للاستعلام: 01/772801