عَالمَان من التضادّ شكّلا محور «من نحن؟ القيم المشرقية المتوسطية في مواجهة العولمة التكنو - رأسمالية» (دار أبعاد للطباعة والنشر) لسعد محيو. عالمان تمثّلا في التكنو- رأسمالية المتوحّشة، ومقابلها القيم المشرقية المتوسطية، أو العالمية الحقّة، ومقابلها العالمية المزيّفة. فعالميتنا المشرقية تضرب جذورها عميقاً في تاريخ إقليمنا وتشكّل جزءاً عضوياً من ذاكرتنا الجماعية وهُويتنا الحضارية- القيمية العالمية، تستند برمتها إلى مفاهيم الضمير والقيم الأخلاقية والتسامح والتعددية وحب الطبيعة، فيما العالمية الرأسمالية زائفة وأحياناً مضلّلة على رغم تمسحها بقيم الديموقراطيات والحريات.
يرى المؤلف أنّ «العولمة الرأسمالية مجرّد قوة أنانية وعمياء» (الصورة بعنوان «تشابك» للفنان الإسباني دانيال كانوغار ـــ 2008)

من هذين العَالميْن المتناقضين، يستطلع محيو مصائر «أمّنا الأرض»، ومستقبل البشرية، ليطرح فكرة برنامج استشرافي إنقاذي عماده المشرقية المتوسطية، وبنوده تاريخ من حضارات نشأت آلاف الأعوام قبل الميلاد في إقليم، قال المؤرخ فيليب حتي إنه «تلك البقعة التي تقع في منطقة جغرافية تتألف من الهلال الخصيب بطرفيه اللذين يشتملان على بلاد ما بين النهرين (أي العراق الحديث) وسوريا وفلسطين ولبنان، وعلى القطر المصري وبلاد الأناضول أي آسيا الصغرى وتركيا، وبلاد فارس في إيران».
إذاً، إنه المشرق لأن القيم المشرقية مجالات ثقافية تضم أمماً ومناطق عدة، وهو المتوسطية «كتصفية الحساب مع هيمنة المصطلحات الغربية». وفي هذا المجال، تشكّلت صفحات الكتاب من ثلاثة عشر فصلاً، وخاتمة، إلى مراجع وفهارس، تكثّفت في الفصلين الرابع (الهُوية الغربية في مهب الريح) والثامن (الكونية المشرقية الحقّة والعالمية الزائفة التكنو- رأسمالية). وإذ يصف العولمة الرأسمالية بأنها مجرد قوة أنانية وعمياء لا تؤمن بأي حضارة، ولا تنتمي إلى أي ثقافة ولا تعبد أي إله سوى آلهة المال، فإنه يرى في هذا التوصيف دعوةً للمشرقيين لاستعادة مبادئ حضارية عالمية غير مُنغلقة نبتت في هذا الإقليم، وسِمَتُها التعددية واللامركزية في إطار الوحدة الجيو – ثقافية، نافياً أن تكون قفزاً (هذه القيم المشرقية) فوق الهوية العربية والهويات الوطنية التركية والإيرانية والكردية والأمازيغية والانتماءات المسيحية واليهودية (غير الصهيونية) والعلوية والأيزيدية وغيرها من المكوّنات الإثنية والدينية التي لطالما كان يعجّ بها هذا الإقليم منذ آلاف السنين (ص9). لكن، كيف يتحقق ذلك، ونحن ما نحن فيه وعليه وتحت مفاعيل أزماته الكارثية، وصراعاته الأهلية، ونبذ الآخر/ الجار؟


يبني محيو رؤيته/ دعوته بناءً على قراءته «للتدمير الخلّاق» الذي تنقضّ التكنو- الرأسمالية من خلاله على القيم والهويات الغربية، «ما دفع العديد من المفكرين الغربيين إلى التحذير من هذا الانقضاض»، وفي تمزيقها حجر زاوية النظام الغربي وهو الدولة/ الأمة «التي كانت ثمرة خمسة قرون طويلة من التطوّر السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي» (ص96)، وأيضاً في احتضار السياسة والديموقراطية «فالتكنولوجيا والعولمة أكثر ديناميكية وسطوة بما لا يقاس من الديموقراطية، فالسياسيون يحتاجون إلى جيوب الرأسماليين لتمويل حملاتهم الانتخابية، والفساد يزداد انتشاراً، والاقتصاد الإجرامي (أي اقتصاد المافيات) يتوسع بشكل انفجاري منذ عام 1989 ودور جماعات الضغط الإثنية يشهد صعوداً هائلاً... وهذه كلها مؤشرات إلى اضمحلال السياسة والأخلاقيات الديموقراطية» (ص101)، لذا، يرى أن التهديد الحقيقي للقيم والحضارة الغربيين، يكمن من داخل هذه الحضارة لا من خارجها، مستشهداً بما ذكرته مدرسة فرانكفورت «التي اكتشفت العلاقة بين الرأسمالية وبين التدهور الثقافي –الأخلاقي في الغرب».
نعود ونسأل: هل يكفي أن يكون الغرب في أزمة وجودية كي ينتعش المشرق- المتوسطي تلقائياً؟
يعترف الكاتب بـ «تسونامي العولمة التكنو ــ رأسمالية التي تجتاح العالم»، والعوائق الأزماتية السياسية في «إقليمنا»، وصراعاته الدموية والتدخلات الخارجية والتعثر الاقتصادي –التكنولوجي، لكنه يؤمن، أو يتمنى، وربما يذوب حبّاً بأن تتحقق أمنياته بأن تملأ القيم والمثل الإنسانية التي في جعبة الحضارات الشرقية أهل الأرض، لأنها متسلّحة بثلاثة معطيات: الفراغ القيمي الذي يمر فيه العالم، والموقع الجيو-استراتيجي الهائل للمشرق المتوسطي، والإرث الحضاري التأسيسي للمشرق المتوسطي.
يستشهد بما ذكرته مدرسة فرانكفورت عن العلاقة بين الرأسمالية والتدهور الثقافي في الغرب


عن هذه القيم والمثل وتواريخ ولاداتها، يركّز محيو حبر قلمه، و«تصوّفيّة» آماله، فيبدأ بالخيوط الأولى قبل خمسة آلاف سنة قبل الميلاد. من الفراعنة مبتدعي شعار: الحق، الصدق والعدالة، إلى بلاد ما بين النهرين، والكنعانيين والسومريين والبابليين، فالعهد الفارسي وفلسفة زرادشت، والحثيين في الأناضول، وبعدهم الأديان السماوية، ليخلص إلى أنها كانت حضارات قائمة على الضمير والتوازن والتعدّد والتسامح وحب الطبيعة.
والأهم لدى محيو قوله «إننا نستطيع»، هو باستعادة منظومة القيم التاريخية الهائلة والاندفاع بها نحو العالم في شكل هجوم مبدئي أخلاقي، يعمل في الوقت نفسه على إعادة بناء وحدته الجيو- ثقافية ولاحقاً وحدته الجيو – سياسية. (يحضرنا هنا – على سبيل المثال - كتاب رشيد يلوح من المغرب بعنوان «التداخل الثقافي العربي- الفارسي من القرن الأول إلى القرن العاشر الهجري» (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات) وكان تداخلاً انصهارياً غير مسبوق في الثقافات المتجاورة بما حصل فيه من إبداعات حضارية).
وتطبيقاً لمبدأ دانتي أليغييري القائل: «أكثر الأماكن سخونةً في الجحيم محفوظة لأولئك الذين يقفون على الحياد خلال الأزمات الأخلاقية الكبرى» وقد استعاره المؤلّف، فأورد طيّ الكتاب الشواهد عن جحيمية السياسات الرأسمالية ونيوليبراليتها وآثارها على شعوب كثيرة وفي دول متعددة، وأبرزها زرع العدو الصهيوني في أرض فلسطين بالغصب والاحتلال وارتكاب الجرائم، محدّداً، في المقابل شروط الانبعاث في مشرقنا بسؤال: من نحن؟ طبعاً، كي لا يكون لنا أماكن ساخنة في الجحيم!