«معها، خالدة، تنهار جدران الضوابط الاستبدادية أمام تقدّم المعرفة، المعبر الإلزامي لبلوغ الحرية. معها، خالدة، الكلمة الشجاعة المهذبة الراقية الحازمة يمكن للأجيال الصاعدة أن تتعرّف إلى درب نهضوي في ميدان الآداب يسهم في نفض غبار التخلّف والعنف اللذين يطبعان الكثير من المقاربات الأدبية، ليس في المدى العربي فحسب، وإنما في مختلف الثقافات أيضاً. إذ ثمة وجوه شبه ومشتركات كثيرة بين شعوب العالم. وخالدة، الكلمة متفاعلة مع ما هو «الآخر» تفاعلاً متأصّلاً في جذور الثقافة السوريّة العريقة عراقة التاريخ الجليّ والتي ترى في الآخر شريكاً في دورة الحياة والعمران الإنسانية، ولا ترى فيه عدواً ولا حتى منافساً. فالتلاقح الثقافي حقيقة موجودة لا يخافها سوى من يشكّك بثقافته هو، فيتّكئ إلى العنصرية الشريرة، الشريرة من أساس وجودها، ليُطلق العنان لغريزة الكراهية الكامنة في داخله».
عدد «تحولات» تحية بيروتية للتي قالت عن المدينة المجروحة «الحنين إلى بيروت لا نهاية له»

بمتلازمتَي المعرفة/ الحرية والمعرفة/ الانفتاح، يفتتح الأكاديميّ حسن حمادة العدد 26 (شباط 2022) من مجلّة «تحوّلات مشرقية» الذي يتناول في قسمه الأول نتاج الناقدة والأديبة خالدة سعيد بغلاف يحمل عنوان «خالدة سعيد…الأيقونة والمعنى». يأتي العدد تكريماً للباحثة القادمة إلى النقد وقد تشكّلت حساسيتها بداية في الفن التشكيلي ومن مدرسة الفنون والصناعة الدمشقيّة، واستكملت عدّتها المعرفية في الجامعة اللبنانية و«جامعة السوربون» كي تستطلع «أفق المعنى»: خالدة سعيد التي صار النقد معها أفقاً مستقلاً تُلقي الضوء فيه تأمّلاً وتشريحاً على الأدوار التي قام بها المثقّفون والشعراء والمبدعون الكبار في بيروت التي شكّلت في منتصف القرن الماضي مختبراً للحداثة العربية وإطارها النظري ومجرّباتها العملية. أمعنت الناقدة المتمرّسة النظر في أكثر من «مانيفستو» للحداثة، سبرت غور التجارب في مشتركاتها وخصوصياتها وأثرت المكتبة العربية بأكثر من مؤلَّف مرجعي مثل «في البدء كان المثنّى»، و«يوتوبيا المدينة المثقفة»، و«حركية الإبداع»، و«أفق المعنى»، و«الحركة المسرحية في لبنان» وغيرها عشرات الكتب والدراسات الأدبية والنقدية. وشكّلت مع أسعد رزوق وجبرا ابراهيم جبرا ثلاثي المواكبة النقدية لمشروع مجلة «شعر» في ثورة الشعر العربي الجديد على الأطر المتصدّعة والقوالب البالية، ومساهماتها في مجلة «مواقف» في نقل النقد من ظل للعمل الإبداعي إلى علم مستقل وموقف حضاري ووعي استيتيقي واجتماعي وأخلاقي وتاريخي. فالنقد كما تقول سعيد في مقابلة سابقة مع «الأخبار» (ملحق «كلمات» ـــــ 19 كانون الأول/ ديسمبر 2020) «هو أكثر من شارح يقوم بوظيفة التواصل بين المبدع والقارئ. هو، يُضيف رؤيته للموضوع، ويكشف أبعاداً جديدة وتداخلات جديدة، وربّما قلَب الموقف برمّته واكتشف بُعداً خفيّاً في النصّ المدروس. فالناقد، وإن كان ملتزماً بالنص المدروس، لكنه ليس أسيره، بل يسافر فيه وحوله، ويفتح أضواء ومداخل، ولا ننسى أنّ التطوّر قد شجع البحث الأدبيّ وأسقط على النصوص أضواء جديدة. النقد الأدبي لم يعد مجرد شرح وتقويم. التحليل نفسه اتّسعت آفاقه في اتّجاهات عديدة أدبية وفلسفية واجتماعية وسياسية...».
العدد المخصّص لخالدة سعيد ابتدأ بمقابلتَين لها في «تحولات» و«صباح الخير» حول مؤسس النهضة السورية القومية الاجتماعية الزعيم أنطون سعادة، الذي تركز سعيد على أن لا يتمّ التعامل معه كقديس وحصره في حيّز الثبات والجمود، وإنما النظر إليه كمثقف مبدع رؤيوي في خط الفكر الخلّاق، أي الحي المتحرك، واستلهام أفكاره في كتابه المرجعي «الصراع الفكري في الأدب السوري» في نظرته إلى المجتمع على أنه تفاعل تاريخي مع البيئة. وهذا ما يعطي المجتمع خاصية الحركية والنمو والتفاعل المنفتح. كما ترى سعيد، استناداً إلى معرفتها بالمؤسسات الحزبية، أنّ هذه الأخيرة تميل إلى توظيف المبدع، بمعنى أنه يصبح مفسّراً لأفكارها ومسوّغاً لأفكارها أكثر مما يبقى طليعياً.


يستحضر الناشر سليمان بختي في بحثه «الناقدة خالدة سعيد أيقونة النقد العربي الحديث وحارسة ذاكرة بيروت» تجربة خالدة سعيد في «يوتوبيا المدينة المثقفة» (دار الساقي 2012)، حيث «مدينة تنهض على الفكر والقانون والحياة في الإبداع وفي الانتماء إلى الثقافة باعتبارها نهضة وسبيلاً للعقلنة وعملاً تأسيسياً لبناء الإنسان وبناء المجتمع وبناء الحضارة». يرتكز بختي على العرض المفصّل الذي طرحته سعيد في كتابها، ليكرّسها كحارسة الذاكرة حول كل جميل في المدينة. الكتاب الذي استكملته بجزء ثانٍ بعنوان «فضاءات» (دار الساقي 2021) ألقت فيه الضوء على 37 مبدعاً لبنانياً شكّلوا عماد النهضة المدنيّة الأدبية والثقافية أو ما أسمته «الحضور الرسالي للثقافة». الباحث صقر أبو فخر ركّز في مداخلته «خالدة سعيد…النُبل والألماس معاً» على خالدة الناقدة لتجربة روّاد مجلّة «شعر»، ولا سيما تجربة زوجها الشاعر أدونيس، فـ «من حسن طالع أدونيس أنهما ترافقا كطائرين من فصيلة العاشق والمعشوق، أو مثل شاعر وناقدة في بحور الشعر الرفيع». كما أشار أبو فخر إلى تجربة سعيد في الفن التشكيلي، هي التي داومت في مرسم فنّان دمشقي معروف مدة ثلاث عطل صيفية، ونجحت في مسابقة لتدريس الفنّ التشكيليّ، ونالت الدرجة الأولى على سوريا، ودرّست فنّ الرسم أربع سنوات قبل انتقالها إلى لبنان. انتهت التجربة التشكيلية مع بداية المتاعب التي قادت زوجها أدونيس إلى السجن مرات عديدة بسبب خياراته السياسية. محمود شريح يركّز في بحثه «خالدة أيقونة نقد الحداثة» على الأفق الجديد الذي انبثق من بحث «الحداثة أو عقدة جلجامش» الذي نشرته في مجلة «مواقف» عام 1982. إذ أسهبت في شرح تنامي أزمة التصدع في نصّ الحداثة بردّه إلى «الوعي باختلال العلاقة مع الصورة الأبوية أو الأنا الكاملة.
شكلت مع أسعد رزوق وجبرا ابراهيم جبرا ثلاثي المواكبة النقدية لمشروع مجلة «شعر»

وعبر هذا الاختلال، تنشأ أزمة يمكن بها فهم أسطورة الموت والانبعاث التي استحوذت على مخيّلة شعراء الحداثة في الخمسينيات والستينيات». يوضح شريح كذلك أنّه إضافة إلى اهتمام خالدة سعيد بالشعراء «المكرّسين» أمثال أدونيس، وجبرا وحاوي والخال والسياب، فإنها لم تُهمل شعراء الجيل الجديد حينها من عباس بيضون إلى سمير الصايغ، وهي تضع الحداثة في إطارها التاريخي منذ طه حسين وعلي عبد الرازق إلى الياس خوري وكمال أبو ديب، مع إضاءات على محمد الماغوط وسنية صالح وتوفيق صايغ وصلاح عبد الصبور وغسان كنفاني وإميل حبيبي. لؤي زيتوني يركّز في البحث الأخير «خالدة سعيد في الحركية واحتمالات المعنى» كيف استطاعت سعيد أن تنفذ داخل مجموعة من المصطلحات النقدية والمحورية، لتقدّم رؤيتها النافذة حول مفهومَي الإبداع والمعنى اللذين كانا محور العديد من مؤلفاتها مثل حركية الإبداع، أفق المعنى، فيض المعنى، لتظهر لنا أنّ «الإبداع بطبيعته لا يمكن إلا أن يكون حركياً ينهج نهج التحول المستمر، من دون توقّف، وإلا فقَدَ روحيته، فهو في الأساس صناعة لا مثال، وبالتالي فإن ركونها إلى الجمود يعني أنها بطُلت أن تكون إبداعاً». كما يركز زيتوني على الآلية الحركية في منهجها، من خلال ربط مفهوم النقد بعملية الرفض التي تنفي كل قائم وثابت وخلق نظرة إلى قصيدة/ رؤية ذات طبيعة حركية مستمرّة، وحضور مفهوم التأويل معياراً للعمل العظيم، وهي شروط أساسية لتوليد المعرفة الحقيقية. عدد «تحولات» الأخير تحية بيروتية للتي قالت عن المدينة المجروحة «الحنين إلى بيروت لا نهاية له. عشت فيها كأنها حضن الأمّ بعد الفراق. وهكذا هو حنيني إليها»، حنين إلى المدينة اليوتوبية المثقفة التي كانت تجترح المعجزات.