عندما يُذكر اسم نزهة يونس (10 أيار/ مايو 1937 - 3 نيسان/ أبريل1992)، تستحضر الذاكرة فوراً جيل رواد النهضة اللبنانية والأسماء الفنية الكبيرة التي أسهمت في إرساء أركان الفن في تلك الحقبة الذهبية. ثلاثون عاماً مرّت على غياب الفنانة الشاملة نزهة يونس، ابنة المسرح ونجمة الغناء والتمثيل السينمائي والتلفزيوني. صاحبة العينين الكحيلتين التي يُروى أنها كانت تعرقل السير في شوارع بيروت، وخاصة باب إدريس عند مرورها لتهافت المعجبين عليها وتجمّعهم لرؤيتها.بدأت نزهة مسيرتها الغنائية بالتراث الشعبي من أبو الزلف والميجانا والعتابا والدلعونا واستمرت حوالي عامين إلى أن انطلقت بأغانيها الخاصة التي كانت فيها ابنة بيئتها اللبنانية، فحملت في صوتها عبق ضيعتها «تنورين»، فكانت من أوائل الأصوات التي حرصت على بساطة الكلمة في الغناء لتصبح صورةً وانعكاساً لحياة المجتمع آنذاك. تعاونت مع كبار شعراء العامية اللبنانية، أمثال توفيق بركات وميشال طعمة وشفيق المغربي وغيرهم. هكذا، غنّت «يا خالتي عبي الجرة عيون جوزك لبرة»، و«مشغولة وعم بعمل تبولة» التي حظيت بشهرة واسعة، و«في جنينة مليانة زهور ما في عليها ولا ناطور... تلاقينا قطفنا ورد وشمّينا... رقصنا دبكة وغنينا... لحقول الغلّة... والمرج الأخضر والتلة» التي لحّنها إحسان صادق، و«تمر تمر الجميز»، وأغنية «دادا» (ألحان جميل العاص) و«صباح الخير» (ألحان إبراهيم رأفت)، و«العب يا سمك بالمي» و«دق المهباج»، و«يا بياع العنابي امرق من حد حبابي... وان اخدوا منك عناب أيدهن على حسابي»، وغيرها من الأغاني التي لاقت رواجاً كبيراً في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.

جمعت تبرّعات خلال حرب السويس وخلال الحرب الأهلية اللبنانية

أغنيات كثيرة لنزهة استمرت حتى يومنا هذا. يردد الكثير من الأجيال الحالية أغانيها من دون أن تعلم أنها مطربة تلك الأغنيات مثل «أمانين أمانين» التي أعادت تقديمها ديانا حداد في تسعينيات القرن الماضي، وهي لنزهة التي اختارتها من الملحن محمد الحلبي أثناء إحيائها حفلاتها في العراق وحلب.
كانت نزهة نجمة الأغنية الشعبية اللبنانية، الحريصة على استخدام مصطلحات قد يطويها النسيان منها أغنية «الابندجي» لشفيق المغربي وجورج يزبك، وهي كلمة شعبية تعني الشخص غير الصادق تجاه حبيبته وغيرها من المصطلحات.
انطلاقتها الغنائية بدأت مع ظهور المهرجانات القروية في لبنان، فكانت نجمة تلك الحفلات، وخاصة «مهرجان الزهور» الذي كان يقيمه الأخوان رحباني في أنطلياس في أوائل الخمسينيات. ولذلك المهرجان حادثة طريفة عندما هبطت نزهة في إحدى الليالي من قلب شجرة ليمون كبيرة وتوجهت إلى رئيس الجمهورية بشارة الخوري لتقدم له هدية من حصاد أشجار «عروس الساحل اللبناني» أنطلياس.
كانت نزهة نجمة الاصطياف الأولى، واسمها حاضراً دوماً في حفلات «بيسين عاليه» و«أوتيل الجبيلي – بحمدون»، ومنتزهات فالوغا وحمانا وغيرها من الحفلات التي رسّخت مكانتها الفنية ونالت ألقاباً عديدة مثل: «عذراء الربيع» و«ملكة جمال الليمون»، وتُوجت عام 1955 «ملكة جمال لبنان» وعام 1957 ملكة جمال السينما.
يسجل التاريخ لنزهة يونس أنها كانت أول وجه نسائي يظهر على شاشة تلفزيون لبنان عبر احتفالات مباشرة نقلتها الشاشة مع الفنان وديع الصافي. ومع بدء التسجيل، دخلت نزهة بيوت اللبنانيين مع «تلفزيون لبنان» بمسلسلات لا تزال أصداؤها لغاية اليوم مثل «حكمت المحكمة»، و«المفتش»، و«الجوال» (إخراج إيلي سعادة) وغيرها من المسلسلات والبرامج كـ «صندوق الفرجة» الذي لقي نجاحاً كبيراً وأصبح حديث الناس لسنوات طوال، وكان عبارة عن برنامج غنائي استعراضي تمثيلي أدّت فيه نزهة العديد من المونولوغات الغنائية.
لم تكن نزهة نجمة غناء وتلفزيون فقط، بل اعتُبرت في بداية الخمسينيات إحدى دعائم الفن المسرحي اللبناني بمسرحيات مع الفنان الراحل عيسى النحاس وفرقته مثل «ضحايا المجتمع» و«عطيل» و«الفنان يبكي» و«العاشق الشارد» وغيرها من المسرحيات، فمعها ومع فرقتَي عيسى النحاس وعلي العريس، نهض الفن التمثيلي المسرحي، ووُضعت أركانه ولبناته الأساسية.
بعد المسرح والمهرجانات الغنائية، أصبح اسم نزهة في صدارة المشهد الفني اللبناني ووصل اسمها إلى قريبتها منتجة الأفلام المعروفة آسيا داغر بتزكية من قيصر يونس موزّع أفلامها في لبنان، حيث أسندت إليها دور البطولة في فيلم «قلبي على ولدي» (1953) إلى جانب كمال الشناوي وزكي رستم وأمينة رزق. حقّق الفيلم نجاحاً كبيراً وغنّت فيه بمشاركة شقيقتها هيام «سلامتك يا ماما».
توالت بعدها مسيرة نزهة في السينما المصرية مع فيلم «من رضي بقلبه» (إخراج بهاء الدين شرف)، ثم «إسماعيل ياسين في جنينة الحيوانات» (1957) الذي غنّت فيه «عصفوري يامه عصفوري». أما لبنانياً، فيبقى الأبرز لنزهة يونس مشاركتها في «إلى أين؟» الذي يُعتبر أول فيلم لبناني يُعرض عالمياً في «مهرجان كان» للمخرج جورج نصر، و«سفر برلك» (تأليف الأخوين رحباني وإخراج هنري بركات) أمام الفنانة فيروز، وفيلم «أفراح الشباب» مع الفنانة صباح وفهد بلان وإحسان صادق، و«المعلم لطوف» مع نجيب حنكش، و«في قلبها نار» مع نجاح سلام ونوال فريد و«مغامرات شوشو».
تعاونت مع كبار شعراء العامية اللبنانية، أمثال توفيق بركات وميشال طعمة وشفيق المغربي


كان بيت نزهة يونس في بدارو ملتقى ثقافياً لرواد تلك الحقبة. استضافت في صالونها العديد من الشخصيات البارزة كالأديب المصري إحسان عبد القدوس، وسعيد عقل، وأنور وجدي، وبولس سلامة، وجورج غريب، ويونس الابن، وفاضل سعيد عقل وغيرهم من القامات الفنية والثقافية، وكيف لا وهي التي نشأت في كنف والديها عاشقي الشعر العربي، وقد استقى والدها أسماء أبنائه من بيت الشعر العربي القائل: «الشوق شوقي والغرام غرامي والهيام هيامي والوجد وجدي». فكانت أسماء شقيقها الكاتب والأديب شوقي يونس المسؤول الثقافي في المجلس البلدي لمهرجانات تنورين، وشقيقها غرام الذي توفي في حادث سير، وشقيقتها الفنانة الكبيرة هيام يونس.
شكّلت نزهة يونس ظاهرة فنية عربية، فانطلقت في سماء المهرجانات العربية بحفلات بارزة في دمشق وحلب وبغداد والأردن وليبيا والإمارات، وشاركت في الأعياد الوطنية لتلك الدول وتلقّت تكريمات عديدة وميداليات تذكارية تقديراً لأعمالها ومسيرتها.
كانت نزهة يونس ابنة وطنها العربي الكبير، وما يجدر ذكره في هذا الصدد جمعها تبرعات مع مجموعة من الفنانين خلال حرب السويس، وكذلك خلال اعتقال المناضلة الجزائرية جميلة بو حيرد، فتلقّت من الحكومتين المصرية والجزائرية رسائل التقدير والثناء ومن شعبيهما كل الحب والتقدير.
خلال الحرب اللبنانية، سخّرت نزهة يونس صوتها لخدمة المحتاجين، فأحيت العديد من الحفلات الخيرية لصالح المعوزين والأيتام ودور العجزة والمسنّين، وشكّلت مع فريق من سيدات منطقة بدارو جمعية نسائية خيرية اهتمّت بالوقوف على طلبات وحاجات الفقراء والمتعسّرين في تلك المرحلة من الحرب الأهلية.

كانت أول وجه نسائي يظهر على شاشة «تلفزيون لبنان»


تزوّجت من الفنان اللبناني إحسان صادق عام 1959 بعدما التقيا معاً في عمل غنائي بعنوان «يا هوا بلادي... نسّم ع اولادي» واستمر الزواج لعام 1965، ثم تزوّجت من خارج الوسط الفني عام 1977 وهاجرت إلى كندا واستمر الزواج لغاية 1985 عندما عادت إلى لبنان وآثرت في سنوات اعتزالها الأخيرة مؤازرة الضعفاء واختارت الالتزام الروحي إلى أن وافتها المنية عام 1992.
من بين رصيد نزهة يونس الكبير، لا يتوافر على المواقع الإلكترونية المختصّة إلا عدد قليل من أغانيها، ما قد يحرم الأجيال الجديدة أو المهتمّين بسماع تراثها فرصة التعرف إلى نجمة الخمسينيات الذهبية، وهي دعوة للعمل على حفظ ذاكرة الفنانة التي أثرت برصيدها المتميّز الفن اللبناني.