يبدو معرض آني كوركدجيان (1972) أكثر من معرض لأكثر من تيمة. تعريف عنيف، جارف لتحوّلات الجسد والوجوه. تفجير لمكبوتات العنف والحرب بين أرمينيا ولبنان حيث انفلات غرائز الجسد والوجوه المبعثرة. ‏التكوينات في لوحة آني والخطوط والأشكال ذات طابع ذاتي تذوب فيه العناصر الخارجية. تبحث في أحشاء الجسد عن أسرار وكوابيس في أسلوب يحيلنا على عالم الفنان الكولومبي فرناندو بوتيرو. طريقة تلوين مبسّطة تستدعي كذلك تجارب تشكيليين فرنسيين من القرن التاسع عشر استلهموا عوالم الماركي دو ساد وتوحّشه مع الأنثى.
معرض آني كوركدجيان أكثر من معرض لأكثر من تيمة

‏لوحة كوركدجيان ترجمة واعية حيناً، ولا واعية أحياناً، أبعد من الارتجالات اللونيّة أو الخطوطية. كل لوحة تفصح عن فكرة أو مشهد وتؤوِّل حالة نفسية، وهي متأثرة بشكل خاص بالفنان الجريء كوربيه، لكن من غير الاندفاع نحو إباحية مباشرة، مثل بعض الفنانين الذين مضوا في هذا الاتجاه. اختلافها عنهم يكمن في أنّ جزءاً غالباً من أعمالها مرتبط بذاكرة ذاتية، متأرجحة بين المرئيّ والمتخيّل والكابوسي. قوام ذاكرتها هنا المعطى التاريخي والحروب والمجازر، سواء الأرمنية أو اللبنانية وبينهما تقاطعات وتماثلات، والجسد مشتّت، منهك.
إذا كانت الإباحية لدى بعض الشعراء ترفاً و«تفاصحاً»، فإنّها لدى آني جرح. نساؤها في وضعيّات استسلام أمام واقع تسليع جسد المرأة مثلما هو قائم في الغرب. كلّ امرأة لديها تنطق بصيغة الجمع، متجاوزة في الوقت عينه المناحي السوريالية والتكعيبيبة وسواهما من المدارس التشكيلية التي أمعنت تركيباً وتحريفاً في الجسد الأنثوي، فمضت إلى منحى سايكولوجي فرويديّ يتّصل بالأحلام والكوابيس «الليبدوّية»، إنما لتسخيرها في تيمة ‏الحرب وغرائزها المتفلتة من عقالها، وما تنتج من صنوف الوحشيّة والقتل والإبادة. اللاوعي الفاعل هنا يشوّه الأجساد لإبلاغ حالة الخضوع في حين يتمثّل الوعي في أعمالها بالاستناد إلى الموروث الجمالي والتوازن في رسم وجه المرأة. ومن مأساة الجسد المنكوب العاري إلى دراما الوجوه، ثمة تعامل لونيّ موشّى بأحاسيس الخيبة والقهر وتغيب النظرات التي تعكس الغموض.


تلجأ آني كوركدجيان إلى أدوات متقشّفة بالأبيض والأسود، أو الحبر، حين ترسم مثلاً يداً سالت حجماً مثل ساعة دالي المعروفة، ‏لعجزها عن القبض على ما تبغي. وربما نستطيع تسجيل ملاحظة سلبية حول تعدّد الأساليب التي ألهمت الرسّامة، أو ضعف اللمسة الخاصة الواقعة تحت تأثير مراجع تشكيلية مختلفة تناولت جسد المرأة. مع ذلك، تلفتنا بشدّة مهارة فنية تتمتّع بها آني كوركدجيان في صوغ اللوحة أفكاراً وخطوطاً وألواناً، وفي تجسيد الحالات النفسية بجرأة لافتة، بل صادمة أحياناً.
تُحسن آني كوركدجيان استخدام أدوات تشكيل متنوّعة، من الورق (ماروفلاج) على القماش، إلى القماش في الورق بالحبر الأسود ضمن مساحات تختلط فيها الرؤى وتتعدّد. معرض مميّز، جريء ومختلف. محطّة تشكيلية لافتة في زمن الشحّ الإبداعي.