في السنوات الماضية، قبل الزلزال الوبائي والاقتصادي والسياسي، كان احتفاؤنا بيوم المسرح العالمي (27 آذار/ مارس)، محمّلاً بالآمال والتوقّعات من صنّاع أبي الفنون في لبنان. لكنّ الحال تغيّرت، اختفى العالم الذي نعرفه، وها نحن نقف على شفير الانتظار... انتظار عالم مجهول تماماً، لا ندري ملامحه، ولا شكله، ولا الممارسات والواقع الجديد الذي سيرسيه. مع ذلك، في قلب هذه الظلمة، تحاول المدينة استعادة همّتها، بمبادرات فردية هنا وهناك، وتجارب جديدة تحاول أن تشقّ لها طريقاً وسط الضباب. هذا ما تقوله لنا الممثلتان جوليا قصّار وكارول عبود، والمخرج والمنتج جاك مارون الذي تضرّر مسرحه الصغير في منطقة الأشرفية جرّاء انفجار الرابع من آب، كما الكاتب والمخرج محمد دايخ الذي استطاع ـ رغم كل شيء ــــ استقطاب جمهور جديد وكبير إلى عرضه «السبعة ودمّتا» المستمر منذ شباط (فبراير) الماضي.

فعل صمود
جوليا قصّار


في ظلّ الخراب الذي يسوّر بيروت، ترفض الممثلة جوليا قصّار القول بأنّ هذا الواقع ينسحب على راهن المسرح ومستقبله: «اليوم بالتحديد، هو فعل صمود وإثبات وجود. هناك خرّيجو مسرح كثر قدّموا تجارب في المسرح، وصارت أسماؤهم معروفة ولديهم مخزون مسرحي جميل جداً، نراهم على المسرح رغم الأزمات التي نعيشها على صعد عدّة منها السياسية والاقتصادية والتعليمية والاجتماعية. هناك إرادة بأنّنا موجودون وسنكمل، والدليل أنّ كل المسارح تحتضن عروضاً تحمل نبضاً جديداً ضد الخراب الذي يحصل. هناك أشخاص لديهم ما يقولونه، وأناس يحكون عن وجعهم وموجودون بقوّة، وهذا فعل مقاومة وصمود بامتياز. رغم الخراب، هناك حياة جديدة تخلق، وروح نابضة لم تسكت. لا أحكي شعراً بل هذه الحقيقة. اليوم سأشاهد مسرحية، وبعد يومين أتابع أخرى ورأيتُ مسرحية قبل أيام. هناك حبّ وشغف كبير للمسرح».
نسألها عمّن يتحمّل مسؤولية النهوض بالمسرح، فتقول «لا تكمن المشكلة في المسرحيّين المستمرين رغم كل شيء، فالنبض موجود بل يخفق بسرعة أكبر. المسرح مليء بالحياة ومَن يشاهد الأعمال المسرحية، يرى الحياة جميلة، فالمسرح يمنح الأمل. هو الحياة. المشكلة هي بما يحيط بالمسرح، أي واقعنا الذي يجب أن يتغيّر».
هل تجد قصّار نفسها قريباً على خشبة المسرح؟ تجيب: «هناك صعوبات عدّة لتقديم مشروع مسرحي، بسبب كلفته الباهظة، ولو كان العمل لشخصيّتين أو ثلاث، فهو مكلف من حيث إيجار المسرح، والتنقّلات وكلّ التفاصيل الأخرى مكلفة. نرى كثيرين من المسرحيّين والمسرحيات من كل الأجيال موجودين ومستمرين. لا زمان ولا مكان يحول دون تنفيذ ما نريد، بل نتحلّى بالإرادة. عندما يقول أحدهم أريد تقديم عمل مسرحي، نجده قدّمه على الرغم من كل التحديات والصعاب»

الأنفاس الأخيرة؟
كارول عبّود


ترى الممثلة كارول عبّود أنّه رغم كلّ ما يحصل، يحاول المسرح من خلال مبادرات فرديّة تُقام على نطاق ضيّق أن يبقى على قيد الحياة ويأخذ الأوكسيجين لتبقى المسارح حيّة أيضاً. «رغم كلّ شيء، أرى جمهوراً يريد أن يتنفّس بعد كورونا، وعندما تكون أسعار البطاقات غير باهظة، تكون صالات المسرح مليئة. أرى احتمالَين إمّا أنّ المسرح يلفظ أنفاسه الأخيرة أو أنّه يأخذ جرعة أوكسيجين».
تعتبر عبّود أنّ وجودها على خشبة المسرح بات أقرب إلى الحلم، فـ «المسرح بحاجة إلى تفرّغ تام، ولا يمكنني أن أصوّر مشاهدي في عمل ما، ومن ثمّ أذهب لأقوم بالتمارين المسرحية، لا يمكنني القيام بعملَين في وقت واحد. المسرح يريد تفرّغاً كاملاً وتمارين قد تستغرق شهرين أو ثلاثة». تعلن عبّود آسفة أنّ المسرح «غير موجود حالياً في نطاق تفكيري، قد أشارك في عرض أدائي قد يحتاج تمارين أقلّ، وهذا لا يُعتبر عملاً مسرحياً تقليدياً. هذا يمكن أن يكون أقرب إليّ في المرحلة الحالية كطريقة للتعبير. المسرح يحتاج إلى بال طويل وأنا أصبح نفسي قصيراً».
لا تجد عبّود أنّ لديها حلولاً لإعادة النبض إلى المسرح، «كنت دوماً أقول إنّ هذا الموضوع خاضع لسياسة ثقافية وحكومات البلد هي الموكلة بوضعها. سيبقى المسرح جهداً فردياً والسينما كذلك. ليس لديّ حلول حول إعادة العمل في المسرح على نطاق وطن كامل. هذا يحتاج إلى خطة ومال وتأهيل الأماكن، وفتح مسارح جديدة في مناطق جديدة، ليس فقط في بيروت، ويحتاج إلى جمهور على صعيد وطن. هذه خطّة كبيرة. استمرّ تعليم المسرح في المدارس ضمن المناهج الرسمية فترةً، وبعدها صار اختيارياً. كانوا يحاولون صنع جمهور إلى جانب الفوائد الأخرى للطلاب، وفي ظلّ غياب كلّي لكيان يقف على رجليه، لا أعتقد أنّ المسرح سيقف على رجليه».
تعمل عبّود في المرحلة الحالية في الدراما التلفزيونية، وقد تشارك في أعمال سينمائية، فهل هجرت المسرح إلى الشاشة؟ تجيب: «أجد نفسي حالياً في الدراما، لكن يبقى المسرح موجوداً في داخلي. أين سيذهب؟ أعتقد أنّه سيأتي الوقت المناسب للمسرح».

من قلب المعاناة
جاك مارون


يعلن المنتج والمخرج جاك مارون المتواجد حالياً في الولايات المتحدة الأميركية أنّه لم يهاجر، «لم ولن أبتعد عن لبنان، أنا مسافر في الوقت الحالي في محاولة لمعالجة نفسي والتصالح مع الواقع من أجل استمراريّتي الشخصية وبالتالي المهنية. أنا متعلّق جداً بوطني، لكن أحياناً نُجبر على المغادرة لأسباب عديدة منها شخصية ومالية واقتصادية. أنا من بين الأشخاص الذين عادوا إلى لبنان بعدما غبت عنه في الثمانينيات خلال الحرب الأهلية مثل كثيرين. لا أحب الهجرة، ولكن أتفهّم أنّ هناك مَن يضطر أحياناً للسفر أو يفقد الأمل أو يفكّر في أولاده ومستقبلهم».
وما إذا كان ما زال مؤمناً بقطاع المسرح في لبنان، يُضيف مارون إنّه لم يفقد الأمل، والضائقة الاقتصادية والأزمات اليومية أجبرت ليس فقط قطاع المسرح أو قطاع الفن، بل كلّ القطاعات على التوقّف أو التغيّر. المسرح لا يموت ولم يمت يوماً في كلّ الأزمات التي مرّ بها عبر تاريخه. من الطبيعي أن يتأقلم، فهو حيّ وليس ماكينة، يمرّ بمراحل ويجب أن يعالج نفسه وكلّ العناصر التي تشكّل وتنتج المسرح. سيتأقلم وسيأخذ فرصة ليفكّر بما يريد قوله وتقديمه. في بعض الأوقات، لا يجد شيئاً لقوله، يريد أن يستمع فقط لا غير. هذه الظروف تجعلنا نكتشف فنانين جدداً، أفكاراً جديدة، وأجيالاً جديدة، قد لا نراهم في هذه اللحظة بالذات ولكننا بدأنا برؤيتهم، والمستقبل سيشهد تكوينهم بشكل أكبر لأنّه مع بعض التراجع، يمكننا أن نعالج ما حصل ونفكّر فيه بطريقة أكثر إيجابيةً. أنا مؤمن بالمسرح وسيعود أقوى من ذي قبل».
لا يندم مارون على الاستثمار في قطاع المسرح ولا سيما أنّه خسر الكثير بعد انفجار الرابع من آب، فمسرحه الصغير في منطقة الحكمة (الأشرفية) تضرّر بشكل كبير، «في حال قرّرت الندم، فعليّ أن أندم على كلّ الضرائب التي دفعناها وقدّمناها كمؤسسة فنية، ولكننا لسنا الوحيدين. من حقّنا أن نعرف كيف صُرفت هذه الأموال. أشعر بالفخر بكلّ شاب وصبية شاركوني العمل والسنوات العشر الأخيرة من حياتي من أجمل المراحل. يحاول الإنسان أن يعمل ويقوم بواجباته، ولكن في لبنان لا تقوم الدولة بواجباتها تجاه المواطن للأسف. لا أقول إنّ السبب يقع فقط على الدولة، فالشعب اللبناني يتحمّل مسؤولية ما يحصل. ولا أندم بالطبع على أي عمل فني قدّمته، ولكن أحزن بقوّة عندما أرى أنّ استثمارات ألوف الناس الجميلة التي تُفيد البلد على الصعيد الثقافي والتربوي، قد طارت بلمح البصر».
وعن إمكانية تحضير دراسة لواقع المسرح، فيجيب «في لبنان لا دراسات حول أي موضوع، ولو حصل، لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم. هناك خمسة مسارح في لبنان، وليس صعباً أن نعرف نسبة الحضور أو لا. أعرف بوجود العديد من الأعمال المسرحية في المرحلة الحالية والمسارح مليئة بالجمهور، وهذا دليل على أنّ المسرح لا يموت والناس تعشق المسرح ولا سيما بعد مرحلة كورونا والحجر والأزمة. حاولنا القيام بدراسات عندما أسّسنا محترف الممثلين، وكنا نرغب بأن يكبر المحترف ويصبح مدرسة، وبالتالي مركزاً يتمّ دعمه مثلما يحصل عادة في عدد من البلدان الطبيعية. دُمّرت مسارح لكن لم يُدمّر الفنانون، وها هم يعرضون أعمالهم، وستكون هناك صعوبات للاستثمار في المسرح بسبب الخوف على المستقبل، لكنّ الخطورة تكمن أيضاً في كلّ المجالات وليس فقط في المسرح، فنحن نكبر وعلينا مساعدة أنفسنا ومساعدة غيرنا».

شعبي/نخبوي
محمد دايخ


الكاتب والمخرج المسرحي محمد دايخ يقول إنّ سبعين في المئة من الجمهور الذي تابع مسرحيته «السبعة ودمّتا» منذ بداية شباط (فبراير) وحتى يومنا هذا، يرتاد المسرح للمرّة الأولى، «ما حصل كان أكبر من فكرة المسرحية كمسرحية. نجد خليطاً مبنياً على ثقافات وخلفيات مختلفة. الناس مجتمعون في المسرح من دون أن يتعاركوا. يضحكون ويتسلّون سوياً، ومن المفترض أن يأخذوا معهم جديداً من المسرحية يحملونه معهم لدى مغادرتهم الصالة»..
يعتبر دايخ أنّ جزءاً كبيراً من جمهور المسرح النخبوي معتدّ بنفسه، يجلس في المقاهي ويتحدّث في شؤون المسرح ولكنّه غير فاعل. «إذا أتى شخص ما من خارج هذه البوتقة ليقدّم عملاً مسرحياً أو سينمائياً، يقولون له ماذا ستفعل ويبدأون بالنميمة عليه، ولكنّهم لا يفعلون شيئاً، ولا أعرف مَن صنّفهم نخبويّين. حين نرى الخليط الذي يشاهد مسرحيتنا إن كان للمرة الأولى أو لا، يصبح الذين يسمّون نخبويين وهماً بالنسبة إليّ لا لزوم لهم إن أتوا إلى المسرح أو لم يأتوا».
ويجد دايخ أنّ سكرة النجاح يليها ألم في الرأس في اليوم التالي، «أي أن ينهض الإنسان من سريره حاملاً مسؤولية كبيرة ومحاولاً أن يبقى على الأرض ومركّزاً على ما سيأتي، لأنّ الآتي بعد سكرة النجاح أخطر من أن ينام الإنسان ليصحو بعد سكرة فشل. أمّا بالنسبة إلى أسعار بطاقات عرضه، فيقول «كان الهدف من التسعير أن يستطيع الكلّ مشاهدة المسرحية».
وعن كيفية استقطاب المسارح الأخرى جمهوراً جديداً، يقول دايخ: «عندما تقدّم هذه الفضاءات مسرحيات تشبهنا بكلّ تفاصيلنا لا مسرحيات آتية من مجتمعات خارجية لا تخصّنا ولا علاقة لها بنا. نشعر أنّهم يحضرون مسرحيات لعرضها كأنّنا نعيش في «هونولولو» على سبيل المثال. عندما يصبح المسرح قريباً من الشعب سيستقطب جمهوراً، وإذا أرادوا المسرح قريباً من النخبويين فقط، وكأنّه احتكار لهم، دعوهم. فليلعب كلّ شخص في المنطقة التي يريدها».
وعن يوم المسرح العالمي، يعلّق دايخ: «هو يوم ميلادي، وبما أنّ أمي لا علاقة لها بالمسرح، لم أعرف أنّني ولدت في هذا اليوم بالذات. لا أعرف إذا كان يجب أن يكون هناك عيد للمسرح أو يجب أن تكون السنة بأكملها مشبعة بالفن والثقافة أكثر من السياسة والاقتصاد، أعتقد ذلك».