يحبس المخرج المصري عمر الزهيري شخصياته في متاهة من الشوارع والبيوت والغرف المترابطة بأبواب عبثية. إذا نظرنا من النوافذ، نرى فقط عالماً مظلماً صناعياً وغير إنساني. في الداخل كل شيء متّسخ وبائس ومهدّم، حتى دخان المصانع يخترق الشقة. في غضون دقائق، نتعرّف إلى العائلة، الزوج (سامي بسيوني) والزوجة (دميانة نصار) والأطفال الثلاثة ونعرف دور كل منهم. الأب يأكل ويشرب ويعمل ويعطي المال للزوجة لشراء حاجيات البيت. المرأة خاضعة وتحتفظ دوماً بنفس التعابير أثناء غسل الأواني وتلميع أحذية الزوج والاعتناء بالأطفال. كل شيء ثابت في البيت مثل إطارات الفيلم الثابتة، إلى أن يأتي يوم الاحتفال بعيد ميلاد الولد البالغ أربع سنوات. يقرّر الأب إقامة حفلة حقيقية مع بالونات وزينة وقالب حلوى ويدعو الجميع، حتى إنّه يأتي بساحر للترفيه. يطلب الساحر من الوالد أن يدخل صندوقاً كبيراً، وبالخطأ يتحوّل الرجل إلى دجاجة! التناقض بين الواقعية والعبثية وفرضية السحر والكوميديا التراجيدية السريالية تسحر في فيلم «ريش» (2021). كل شيء في الفيلم مثبت في مكانه المناسب، كل لقطة في إطارها الصحيح وكل شخصية في دائرتها المغلقة. ليس للقصة مكان مُعلن، ولا نعرف شيئاً عن الشخصيات ولا نعرف أسماءها ولكن نعيش معها في غرف المنزل المهترئ، وشوارع مدينة الأشباح المليئة بالحطام. وعند تحوّل الزوج، تخوض المرأة كفاحاً دموياً من أجل التحرّر وإعادة الصفاء والسلام لعائلتها، ولكن الإطار المجتمعي والثقافي ثابت لا يتزحزح مثل لقطات الفيلم.
«ريش» قصة عن خدعة سحرية فشلت، قصة مجازية عن رجل يستحيل دجاجةً. فيلم الزهيري الأول راديكالي فريد من نوعه في عالمنا العربي.
العبثية الرائعة للإنسان تعكس نفسها في وجوه شخصيات الفيلم، تسيطر الفوضى، والسوريالية في هذه الملهاة الإنسانية. يستحيل أن لا ننفجر ضحكاً عند رؤية الأفعال وردود الأفعال. بينما يرفض صاحب العمل الاستمرار في دفع مرتّب الزوج «لأنه ليس مفقوداً أو مريضاً ولم يحضر للعمل»، ينصح أصدقاء العائلة أن تبحث عن ساحر آخر ينصحها بالتوقّف عن أكل الدجاج والبيض «حتى تتحسن حالته». اللاإنسانية ليست سوى تصور مجرد، ويعرف الزهيري هذا جيداً ويقرر التقاط هذا الشعور من خلال المشاهد التي تركز على تمرير الأشياء وحاجيات البيت والفرش والأوراق النقدية الممزقة، تماماً كما لو أن العلاقات الإنسانية قد تم تجسيدها وتحويلها إلى تبادل روتيني للأشياء غير الحية.
كل شيء مثبت في مكانه المناسب، كل لقطة في إطارها الصحيح


يجمع «ريش» بجرأة الواقعية السحرية والشعر الاجتماعي، ويقدم ببلاغة الحياة اليومية لبشر ليسوا على قيد الحياة لأنّ كلمة «العيش» كلمة فظة جداً عليهم لضعف وجودهم. يبني الزهيري جمالاً من القمامة والبشاعة لأنه مقتنع بالعالم الذي خلقه والذي لا يخضع إلا لنفسه. يتشرّب الزهيري من أساليب سينمائية ويخلق شيئاً خاصاً به. يعجن تناقض بونويل كأداة للتحقيق في اللاعقلانية في العالم، بعبثية روي أندرسون، بكفاح الفرد عند كين لوتش، بصور كوريسماكي الحنونة للبؤس العالمي، وإطارات إيليا سليمان وشخصياته الجامدة. وضع الزهيري شخصياته في بيروقراطية كافكا، حتى إنه استلهم منه القصة (رواية «المسخ») وخلق فيلماً خالياً من الاقتباسات لا يشبه إلا نفسه. يهرب فيه ومنه إلى الموسيقى للانتصار على الأوقات الهزلية.
«ريش» الحائز الجائزة الكبرى في «أسبوع النقاد» في «مهرجان كان»، مضحك جداً حتى لو كان مراً كدواء غير قابل للهضم. لكن عمر الزهيري مؤمن به، مؤمن بصورته المجنونة يؤمن بتلك القصة «غير المعقولة»، حيث يتغلغل العبث فيها في الواقع من دون أن تلفت النظر. بعناد يركب كل شيء ويركز على بطلته التي لا تتكلم كثيراً. تغادر المنزل وتتولى المسؤولية، هذا التحرر لا يصرخ بل يعيش في الأفعال بلا بلاغة، وأيضاً من دون الفشل في الوفاء للواجبات التي يفرضها عليها المجتمع التي لن تتحرر منه أبداً.