الحياة دفتر ذكرياتشخصٌ في قلب الليل
وآخرُ في قلب التراب
شخصٌ يشاركُنا الفرح
وآخر يشاطرنا الصعوبات
يمضي عمرنا
كلُّنا عابرون
ولا يبقى إلا الأثر الطيب!
يحقُّ ليَ القول بأنّ هذا التكريم هو ليس لشخصي ولا لإنجازاتٍ معيّنة، وإنما هو تكريمٌ للثقافة واحتفاءٌ بنجاحِنا معاً، في إعلاء شأن عملية التبادل الثقافي بين إيران ولبنان على مدى السنوات الأخيرة وبين الإيرانيين والعرب عموماً. ربما هي مَهمّةٌ تعود إلى فتراتٍ سابقة، وليس إلى هذه السنوات الأخيرة. فإنّ لي مع لبنان تاريخاً عريقاً من الخبز والملح مع أهله، فأنا لم أعاشرهم أربعينَ يوماً وإنما أربعين سنةً وأكثر، حتى صرتُ لبنانيَّ الهوى والطبيعة، لبنانيَّ الذائقة والسليقة، وأكادُ أقولُ لبنانيَّ التفكيرِ حتى صرتُ أرى نفسي من هذا البلد ومن أهله، أحملُ عاداته وطباعَه.
ربما لهذا كانت مهمّتي ثقافيةً منذ البدايات، وربما لهذا السبب انهممتُ منذ انطلاقتي بالتبادل الثقافي بين الحضارتين الفارسية والعربية. لأنّي وجدتُ أنّ مشكلة التفاوت اللغوي أبعدت كثيراً بين حضارتينِ يحتّمُ التاريخُ ويقتضي الدينُ أن تكونا على تماسٍ وترابطٍ وتواصلٍ مستمرّ.
هكذا، ومن موقعي الثقافي، رحتُ أقدّمُ ما أستطيعُ إليه سبيلاً في هذا المجال وهذا العالم، وأقول إنّ كلَّ ما قدّمتُه حتى اليوم، وإن قدمتُ شيئاً فبكل تواضع، قدّمتُه بإصرارٍ وشغفٍ كبيرين. فلولا الإصرار لما تحقّقَ الحلم ولولا الشغف لأنهكَني الطريقُ ربما، لكثرة التحديات والعثرات في المسير.
أقدّرُ هذا المحفل، وممتنٌّ لكل مبادرة وفكرة بتكريمي وأنا أحاولُ أن أنهي مهمّاتي الوظيفيّة إذا سُمحَ لي طبعاً، وأن أختتمَها كما بدأتُها بالضبط؛ من لبنان، البلد الحبيب إلى قلبي. أشكر كل من كرّمني على انفراد وأكرمني من قبل ولا سيما خلال الأيام الأخيرة وهم كثر، لائحة طويلة من الأصدقاء لا يتسع المجال لذكرهم. ربما شاء القدر أن تكون خاتمة مشواري العملي وليس الثقافي طبعاً، مثل انطلاقتها تماماً، من هذا البلد. لبنان الذي واكبتُ انطلاقةَ أول شرارةٍ للمقاومة فيه وأنا في فندق استقلال مع الشخصيات اللبنانية المختلفة والسيد عباس الموسوي بالذات، وكل الشخصيات التي سجّلت أول مواقف الاعتراض على الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، فكنت شاهداً على ولادة المقاومة.
ثم حصلَ أن واكبتُ على مرّ السنوات كل الشخصيات اللبنانية، فكنتُ مع كل لبنان بأقوامه وأطيافه وألوانه المتعددة التي تزيده جمالاً بنظرنا. هذه التعددية البنّاءة أو التي ينبغي أن تكون كذلك دائماً، وأن لا تُستغلّ من قبل الأعداء لبثّ روح التفرقة في صميمِها. هذه الفسيفساء الزاهية التي بهرتني فكنتُ أسارعُ إلى لقاءاتٍ وفعالياتٍ تضمّ رموزاً مختلفين في الصبغة متقاربين في حبّ الوطن والانتماء. أذكر بعض هذه الأطياف الجميلة في ذاكرتي ممّن رحلوا والتحقوا بملكوت الرحمان خلال فترة مأموريتي، الشيخ سعيد شعبان، السيد عباس الموسوي، الشيخ راغب حرب، الشيخ محرم العارفي، الشيخ أحمد الزين، السيد محمد حسين فضل الله، سمير القنطار الذي اصطحبته إلى طهران فور إطلاق سراحه وخروجه من الأسر، غسان تويني، جورج جرداق، ميشال سماحة، الشيخ محمد مهدي شمس الدين، فيكتور الكك، سليمان كتاني، المفتي قباني، الشيخ عبد الأمير قبلان، أنيس النقاش، أحمد لواساني، أحمد موصللي، خير الدين حسيب، السيدة ندى الحسيني، الشيخ جعفر شمس الدين، حسن الشلبي، العلامة السيد جعفر مرتضى، سمير سليمان، النائب إبراهيم بيان مع حفظ الألقاب جميعاً، وآخرين كثيرين، مسلمين ومسيحيين وعلمانيين. عرفتُهم جميعاً عن قرب، وتقاربت أفكارُنا وكثيراً ما كانت نشاطاتنا وحدويةً تقريبيةً حتى بين الأديان المختلفة. رحمة الله عليهم، أما الأحياء منهم، فحدّث ولا حرج حفظكم وحفظهم الله جميعاً.
طبعًا لن أنسى رفاق دربي وأصدقائي وزملائي الذين كانوا ضحايا الجهالة والإرهاب والظلامية، الشهيد إبراهيم أنصاري والشهيد غضنفر ركن آبادي. ولا بدّ هنا من استحضار أصدقاء الدرب الذين لم أكن أتصور أن يكونوا جزءاً من نشاطي المهنيّ مثل الشيخ محمد علي التسخيري وحسين شيخ الإسلام والسيد هادي خسروشاهي وقائد العشق الحاج الشهيد سليماني وآخرين.
لم أعرف من اللبنانيين طوال مسيرتي سوى الاحترام والتقدير، فأنا الذي أحببتُ وطني إيران ومستعدٌّ لتقديم أغلى ما أملك فداءً لها، هويتُ لبنان كذلك، وكنتُ وما زلتُ وسأبقى لبنانيّ الهوى، وربما هذا ما شعرتم به أنتم اللبنانيين فبادلتموني المحبة والاحترام والتقدير.
لا أنكر أن هذا الاحترام والتقدير كانا بمثابة الحافز الأساس الذي جعلني أصرّ وأمشي ثابت الخطوِ في بناء جسور التبادل الثقافي والتواصل بين البلدين إيران ولبنان. فكنتُ حريصاً على فتح نافذة التواصل، لكي يعرفَ كلّ شعبٍ مدى جمال ومحبة الشعب الآخر له. هنا لم تعد اللغة تشكّل أزمةً بين البلدين، ولا بدّ هنا من الثناء على جهود مترجمينا الذين كانوا رواداً في نهضة الترجمة والتعريب والعاملين معنا في هذا المجال، الذين تولوا مسؤولياتٍ جمّةً في هذا الحقل.
أودّ أن أقول كذلك إني عايشتُ اللبنانيين وواكبتُ انتصاراتهم وشاركتهم أفراحهم وحزنت لأحزانهم وعناقيد الغضب المؤلمة أحدها، وكنت شاهداً على مجزرة قانا الأبية. أما فلسطين فلقد سرى حبّها في دمي منذ نعومة أظْفَاري، وعشقتُ القدس من بوابة بيروت ومن خلالها، وعرفتها أكثر من بوابة مرج الزهور.
رحلتي هذه المرة لم تكن سهلة، ولم يكن النشاط الثقافي على ما يرام خلال السنوات الأخيرة، فلقد تأثرنا وتأثرت معنا الثقافة بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية وبالعقوبات الظالمة على بلدينا، وبجائحة كورونا، وتباعدنا اجتماعياً لكن تحدّينا القطيعةَ والتجأنا بكلّ السبل الافتراضية لنسجل كلمتنا الحقيقية. فكان حضورنا عبر المنصات الإلكترونية خطوةً أولى من قلب حاجتنا إلى بقاء الثقافة حيةً تنبضُ في أجساد أوطاننا. هكذا تحدّينا الظروف بقوةٍ حتى أثمرَ عملُنا وأزهر. ألم تكن «أيام الفجر الثقافية» الأخيرة خير نموذجٍ من ثمار ذلك الصمود؟ فشكراً لمن ساهم وتعاون، وشكراً لوزارة الثقافة ومعالي الوزير وشكراً لـ «رسالات».
اليوم أنا لا أنهي مهامّي في لبنان، إلا ومعي قائمةٌ عزيزةٌ جداً من الأصدقاء اللبنانيين، من الجنوب والشمال ومن البقاع والجبل من كل الطوائف والأديان والأشكال، أعتز بصداقتهم وأفتخر بهذا الكنز ولا أستبدله بكل ما في الدنيا. معي حبٌّ متجذّرٌ لهذا البلد، بأرزته وزيتونه وكرومه. ربما خيراً فعلت حين فرغتُ من كتابة بعض مذكّراتي المهنية خلال السنوات الأخيرة، فكان كتابي الذي عنونتُه «جرحٌ وزيتون» وهو اسمٌ يحمل ويعني الكثير. أعتزُّ بكل من ذكرت أسماءهم في هذا الكتاب الذي كلّلتُ مهمّتي في لبنان بإطلاقه وتوقيعه من هنا قبل أيام، من معرض بيروت الدولي للكتاب، هذا الحدث الذي يبدو لي أن عودته إلى الحياة كانت عنايةً إلهيةً لأسجل فيه مسكَ الختامِ في مهامّي هنا.
لا يسعني القول في الختام، إلا أنني سوف أبقى معكم صوتاً لكم ومن جانبكم، أنتم الذين أثبتم أنّ الزمن الذي لم يكن لكم فيه صوتٌ قد ولّى، هنا أستأذنُ جريدة السفير الغائبة وأستعيرُ منها هذا الشعار. فلطالما كان انطباعي خلال مسيرتي المهنية في لبنان، مطعّماً وممتزجاً بالحب وقناعةً مني بقول أمير المؤمنين (ع)، إنّ الناس صنفان، إمّا أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق. وها أنا اليوم، أقفُ بينكم، صدريٌّ وموسويٌّ ونصراللهيُّ الهوى... أَوَليس هؤلاء هم من أهدونا الكرامة والعزّة؟
في النهاية أودّ أن أوجّه شكراً خاصاً إلى زملائي في المستشارية الثقافية الذين أؤمنُ وأقول إنهم زرعوا وأنا قطفتُ، حتى تقدّمنا معاً في مشوار الثقافة.
أختتمُ بأبياتٍ لسعدي الشيرازي:
أمضيتُ عمري بصحبة الورود
فنالَني نصيبٌ من كمالِ هذه الصحبة
وإلا فأنا نفسي ذلك الترابُ لم أتغيّر قطّ!