في حين تستمرّ المطالبة بمتحف للفنون المعاصرة بعد مرور عقود وتعاقُب مسؤولين معنييّن ماطلوا وأجّلوا، ما زالت المحاولات جارية لإقناع أهل السلطة والقرار بإنشاء هذا المتحف! كأنّ الثقافة والفنون خارج أجندات هؤلاء واهتماماتهم. علماً بأنّ قرارات سبق أن اتخذت، وكاد المتحف أن يبصر النور في قصر الأونيسكو، يوم كان الراحل المثقف والمتنوّر جوزيف زعرور مديراً عاماً لوزارة التربية والفنون الجميلة، ثم استُحدثت وزارة الثقافة وتوالى عليها وزراء ولم يتبدّل الواقع.أخيراً، بعد طول انتظار، وُضع الحجر الأساس لمشروع بناء «متحف بيروت للفن المعاصر ـــ بِما» الذي يتوقّع أن يضمّ بعد أربع سنوات، ثلاثة آلاف لوحة ومنحوتة لروّاد الفن التشكيليّ في لبنان من مجموعة وزارة الثقافة، تتولىّ الجمعية المولجة بالمشروع ترميمها. علماً أنّ جمعية Bema مستقلّة غير حكومية لا تتوخّى الربح، أسّستها ساندرا أبو ناضر وريتا نمّور في عام 2017، ومشروع الجمعية الأساسي كان عامذاك إنشاء هذا المتحف كمركز ثقافي وتعليميّ فوق أرض ذات رمزية ونقطة التقاء في منطقة المتحف الوطني، وضعتها «جامعة القديس يوسف» في تصرّف الجمعية.

سيتمتع بطابع معماريّ رؤيويّ صمّمته آمال أندراوس



يبدو أنّ هذا الحلم محتمل التحقق اليوم ليشكّل فرصة اطّلاع على إنتاج فنّي تراكم لدى وزارة الثقافة طوال سنين، على أمل ألا يبقى مجرّد حجر أساس لا تتمّة له ويلقى مصير «متحف إيريس فرنجية للفنون الجميلة». على الرغم من المحاولات الخجولة التي بذلت لإنشاء «متحف ايريس»، تبيّنَ في النهاية أنّه ولد ميتاً.
تكاثرت المتاحف سابقاً، في الزمن العاديّ أو ما نخاله كان عادياً، وتنوّعت محتوياتها و«تخصصاتها» وشهدت بعض التطوّر والانتعاش، متل المتحف الوطني الذي يحتضن قطعاً أثرية ثمينة جداً (نواويس، فسيفساء، حلي وقطع نقدية سحيقة القدم، أعمال خزفية، أسلحة قديمة …) تعود إلى العصور البرونزية، والحديدية، والهلنستية، والرومانية، والبيزنطية، فضلاً عن مراحل الفتح العربي إلى العصر المملوكي… ويتألّف هذا المتحف من ثلاث طبقات وقاعة للمرئي والمسموع مع متجر. أمّا «متحف سرسق»، فمخصص للفن الحديث منذ 1961 إلى اليوم، وقد نظّم عدداً وفيراً من المعارض متل معارض الخريف لفنانين لبنانيين، ويحتوي على مجموعة نادرة من الفن الإسلامي.
إذاً، وُضع الحجر الأساس اليوم للمتحف الجديد في فترة عصيبة وفي ظلّ أزمة اقتصادية هي الأسوأ في تاريخ لبنان الحديث. ويعتبر مؤسّسو المتحف الجديد المزمع افتتاحه في 2026 بأنّه فعل مقاومة للإهمال وتعبير عن التعدّدية الفنية والثقافية.
ساندرا أبو ناضر، القيّمة الحاليّة على مشروع المتحف توضح إلى «الأخبار» تفاصيل المشروع، بدءاً من نشوء المبادرة قائلة: «منذ نحو سبعة أعوام ونحن، ريتا نمّور وأنا، نفكّر في هذا المشروع. وعندما بدأ يأخذ طريقه إلى التنفيذ، أسّسنا جمعيّة Bema التي تُعنى بتشييد متحف للفن الحديث والمعاصر لمدينة بيروت. وضعت «جـامعة القديس يوسف» أرضاً في تصرّف الجمعية تملكها قبالة المتحف الوطني».
شكل المبنى مستوحى من عمارات العاصمة اللبنانية في ستّينيات القرن الماضي


لكن ما دور وزارة الثقافة في هذا المشروع الخاص؟ تُجيب: «وزارة الثقافة تملك مجموعة من ثلاثة آلاف قطعة فنيّة، ولوحات، ومنحوتات، وكنّا قد وقّعنا اتفاقاً مع وزير الثقافة آنذاك روني عريجي يهدف إلى حفظ مقتنيات الوزارة وترميمها وعرضها». وإذ نسأل أبو ناضر عمّا إذا كان المتحف الموعود سيخصّص لنوع محدّد من الأعمال أم سيكون فسحة لمختلف الأنواع، توضح: «الأعمال الفنيّة المتوافرة في الوزارة هي لفنانين تشكيليين يمثّلون أجيالاً متعاقبة، وقد حفظت في الأرشيف وتعرّض بعضها لأضرار خلال الحرب وتأذّى بعضها الآخر من سوء الحفظ. لكن لحسن الحظ، نجا القسم الأكبر منها». وأيّ هدف غير الهدف الفني من إنشاء هذا المتحف؟ تجيبنا: «إنّه صرح فنّي يرتفع في وجه العنف والإحباط واليأس. Bema سيكون أوّل متحف يضمّ إنتاجاً فنياً محفوظاً في أقبية وزارة الثقافة منذ سنين، وسوف يشكّل منصة للتثقيف الفني والتربوي. سيلتزم المتحف بثقافة التغيير وسيكون فسحة تربوية وفنية للتلاميذ والطلاب من سائر المناطق اللبنانية، لا لمشاهدة الأعمال فحسب، بل أيضاً لمتابعة دروس وشروح من فنانين ذوي تجربة». وعن تمويل المتحف، تؤكد ساندرا أبو ناضر أنّه «من مجموعة لبنانيين في الداخل ودول الانتشار وضعت إمكاناتها المادية لتنفيذ المتحف، على أن يكون ذا طابع معماريّ رؤيويّ صمّمته آمال أندراوس، العميدة السابقة لكلية الهندسة في «جامعة كولومبيا»، في نيويورك، وشكل المبنى مستوحى من عمارات بيروت في ستّينيات القرن الماضي، وتتصل مساحتاه الداخلية والخارجية بواجهات شفافة بحيث يمكن للعابرين أمامه رؤية المعروضات من الخارج، فضلاً عن تلك الموضوعة في المساحة الخارجية. أي أنها فسحة فنيّة للجميع». وعما إذا كان المتحف سيلقى مصير مشاريع سابقة، تؤكد أبو ناضر: «سنبذل أقصى الجهود لتحقيق هذا الحلم».