ليس هناك عريٌّ جسدي في «صالون هدى» (2021) الذي أثار جدلاً كبيراً في الأيام القليلة الماضية. هناك عريٌّ سينمائي. يجرّنا فيلم هاني أبو أسعد الجديد إلى التغاضي عن خطابه السياسي، وحكايته الاجتماعية، وعدم المبالاة بأي شيء يحصل أمامنا، لسبب بسيط هو أنّ الفيلم سيء جداً. سعى «صالون هدى» لرسم صورة عن القمع الاجتماعي الذي تتعرض له المرأة في فلسطين المحتلة، لكنها لم تُبنَ بما يكفي ليكون لها تأثير. القصص التي تهدف إلى كسب التعاطف مع بطلات الشريط والنساء الفلسطينيات، فارغة، ليس لأن الواقع مغاير، بل لأنّ الفيلم باهت في سرديّته، لا يستثمر وقتاً كافياً لخلق التوتر. حاول أبو أسعد أن يخلق هالة من التشويق، الذي تفوح منه رائحة الرّعب واليأس بطريقة ميؤوسة. يفشل الفيلم في خلق الزخم، بل يقع في الملل القاتل منذ البداية.

كل شيء مرسوم بشكل محدد. القصة مرتبة في قالب لا يمكن الخروج منه، حتى اللحظات التي يُفترض أن تكون مشوّقة، أتت واضحة ومعروفة مسبقاً ومباشرة. لذلك حاول المخرج الفلسطيني التعويض عنها ببعض المشاهد المفاجئة (دخول البيوت فجأة، القتل بالحرق، محاولة الانتحار)، مشاهد على غرار أفلام الرعب والقتلة المتسلسلين السيئة التي تعتمد على قفزة التخويف (Jump scare)، التي هي محاولة بائسة لإفزاع المشاهد. الفيلم دورة تدريبية مبتدئة في الإخراج والتمثيل والتصوير وحتى في المؤثرات الخاصة (مشهد حرق العميل فكاهي بعض الشيء). بعد كل هذا، يصعب جعل «صالون هدى» مثيراً!
يعدنا المشهد الأول بشريط مشوّق، لكن ليس مع هاني أبو أسعد. تذهب امرأة تدعى ريم (ميساء عبد الهادي) إلى صالون صديقتها هدى (منال عوض) لقص شعرها. كل شيء يسير بشكل طبيعي إلى أن تضع هدى مخدّراً في قهوة ريم وتبدأ الأخيرة في التلاشي على كرسيّها. نصبت هدى فخاً لريم بمساعدة رجل. أدخلاها إلى غرفة خلفية، جرّداها من ملابسها والتقطا لها صوراً عارية في الفراش وإلى جانبها الرجل. لماذا؟ يتّضح الأمر بسرعة: هدى عميلة إسرائيلية تعمل بأوامر الموساد، دورها هو تجنيد نساء أخريات للعمل كجاسوسات للإسرائيليين. كيف؟ كلنا نعلم كما ريم، أنه إذا تم نشر هذه الصور على الإنترنت، سوف تُطرد المرأة من منزل زوجها، وتعتبر منبوذة اجتماعياً، هذا إذا لم تقتل. يزداد الأمر سوءاً مع خطف هدى وإغلاق المحل من قبل المقاومة الفلسطينية. في هذه الأثناء، يجب على ريم التي علمت أنها في خطر، أن تقضي وقتها مختفية، حائرة بين: إما أن تخبر زوجها وتستسلم للعواقب، أو أن تستسلم للمقاومة الفلسطينية وترى ما ستفعل بها الأخيرة أو الانتظار حتى يتم إنقاذها من قبل الإسرائيليّين الذين لا يستطيعون مساعدتها لأنّ «ملفها الاستخباراتي» فارغ، بما أنّها لم تبدأ عملها بعد. من هنا يذهب الفيلم إلى الحوارات والاستجوابات الدرامية التي تجريها هدى مع حسن (علي سليمان) قائد فرقة المقاومة، للحصول على المعلومات عن العملاء والنساء اللواتي تم تجنيدهن وبينهن ريم للقضاء عليهن فوراً. هذه قصة الفيلم: العمل مع الإسرائيليين أو الفضيحة الاجتماعية، أيهما أهون!


تجسّس، خيانة، عمالة، تضارب مصالح، خطر، تعاطف، ذكورية، نسوية، مقاومة... كل شيء موجود ليكون باروداً لفيلم تشويق مثير. ولكن «صالون هدى» لا يرتقي إلى هذا المستوى، بخاصة أن المكان (الضفة الغربية) والخلفية الاجتماعية والسياسية لفلسطين لا تساعد أبداً. لا بدّ من أن نذكر هنا أنّ الفيلم المبني على قصة حقيقية، يصوّر المقاومة الفلسطينية عدوّاً على قدم المساواة من إسرائيل، حيث تُجبر المرأة الفلسطينية على الاختيار بين شرّين. ويبرّر الشريط العمالة لإسرائيل بالنظام الذكوري الذي يقمع المرأة، فينتهي بها المطاف بأن تكون ضحية ليس فقط لعدو واحد، بل عدة أعداء. خطاب يستحق طرحه بشكل أعمق بكثير مما شهدناه في فيلم هاني أبو أسعد. لا نشكّك في مصداقية الفيلم، لكن نشكّك في جرأة المخرجين على طرح هذه القضايا من زاوية أوسع وبحرية أكبر. ولا نعني بالجرأة عريّ الجسد الأنثوي أمام عيون المشاهد الغربي! فالملفت هنا هو إصدار نسختين من الفيلم: واحدة مع مشاهد عريّ لرجل وامرأة مخصّصة للغرب، وأخرى خالية من هذا المشهد للمنطقة العربية. هذا ما يجعل من المشهد برمته «أكسسواراً»، يؤكّد أنه مجرد حشو يمكن الاستغناء عنه. في أفلام التشويق، القطع مرحّب به، التركيز على التفاصيل بدلاً من تصوير كل شيء محبذ أكثر.
يفقد الفيلم القوة والمصداقية مع مرور الدقائق. في بعض الحالات، يخلق شخصيات كاريكاتورية، ويحشو مشاهد لمجرد التأكيد على قمع المرأة (قصة المرأة في المستشفى التي تخاف أن تخبر زوجها أنها تعاني من سرطان الثدي خوفاً من أن يطلقها، أو مشهد الغداء مع عائلة زوج ريم). التكرار يقتل الفيلم، الخطاب المباشر يضعف النص الذي يفترض أنه فيلم تشويق. مخرج «الجنة الآن» و«عمر» يحب فكرة التجسّس، ويعود إليها في فيلمه الجديد الذي يشبه تمريناً مدرسياً على الدراما مع لقطات مملة وتطور سردي نعرف فيه ما سيحدث دقيقة بدقيقة. في «صالون هدى» قصة ريم مختزلة، وقصة هدى مبسّطة، وقصة انضمام حسن للمقاومة للتكفير عن ذنب، تشكّك في مصداقيته كمقاوم.
قصة انضمام حسن للمقاومة للتكفير عن ذنب، تشكّك في مصداقيّته كمقاوم


مشكلة الفيلم الأولى تكمن في السيناريو، زاد عليها ضعف الإخراج والتمثيل. يصوّر السيناريو المجتمع الفلسطيني بأنّه يعاني من مرض سرطاني يتمثل في العملاء. بالطبع هاني أبو أسعد له الحق في الحديث عن أي شيء يراه في مجتمعه، لكن عليه مسؤولية ككاتب ومخرج منتج. أحد أدوار السينما هو فتح النقاش ونقل الواقع إلى الشاشة بطريقة ما. لذلك كان على أبو أسعد أن يدعونا للنقاش، لا أن يبعدنا عن الفيلم والشخصيات. تصوير المقاومة الفلسطينية على أنها عدو للمجتمع نفسه، هي سردية غربية لا عربية، وهذه ليست المرة الأولى التي نرى فيها سرديات مماثلة في السينما العربية. مسؤولية ثانية كان على أبو أسعد أن ينتبه لها هي أنّ حشو مشهد عريّ في الفيلم سوف يستأثر بالجدل (وهذا ما حصل فعلاً) ويضيع الموضوع الحقيقي، أي المجتمع الذكوري، وقضية أنّ النضال لتحرير المرأة لا ينفصل عن النضال ضد المستعمِر، خصوصاً في السياق الفلسطيني. ضاع هذا الخطاب السياسي بسبب مشهد لا يتعدى الدقيقتين! صوّر هاني أبو أسعد النساء الفلسطينيات على أنّهن غبيات، لا يعرفن عدوهنّ، والرجال متسلّطون ذكوريون، والمقاومون أشرار، والمجتمع كله مريض، في إطار تشويقي مفتعل لا يدعو إلى الألفة مع الشخصيات. دار أبو أسعد في مكانه طوال الفيلم، لم يعرف إيجاد المخرج من الورطة التي أوقع نفسه وشخصياته فيها. حاول الخروج من المعضلة، لكنه لم ينجح وختم الفيلم بنهاية مفتوحة. تقضي الجرأة بطرح قضية والخروج منها بطريقة مباشرة، لكن طرح موضوع حساس بهذا الشكل وفي النهاية ينفض الفيلم نفسه منه، فيه شيء من الجبن.