في الثاني من الشهر الحالي، أطفأت استديوات «RT فرنسا» الروسية الناطقة بالفرنسية أضواءها، وودّعت مشاهديها بعد أربعة أعوام من العمل في باريس، وسط تنديد بقرار الاتحاد الأوروبي بحجب الشبكة في أرجاء أوروبا، على خلفية شنّ روسيا حرباً على أوكرانيا، وتوصيف هذا القرار بـ «الاعتباطي» الذي يستهدف حرية الصحافة والتعبير بشكلٍ غير مسبوق. قرار أدانته وقتها مديرة «روسيا اليوم ــ فرنسا» كسينيا فيدوروفا التي غرّدت بأنّ قرار حظر الشبكة التي يعمل فيها 176 موظفاً، وأكثر من 100 صحافي، يندرج ضمن «انتهاك لسيادة القانون ويخالف مبادئ حرية الرأي والتعبير». وختمت: «لا شيء يبرّر هذه الرقابة». حجب «روسيا اليوم» ووكالة «سبوتنيك» الروسيّتين، في أوروبا، يأتي بعدما اتّهمتهما المفوضية الأوروبية بـ «بث الأكاذيب». قرار سرعان ما انسحب على باقي الدول الأوروبية، التي أُجبرت على تنفيذ الحجب في بلدانها. إذ حذّر النص الرسمي للاتحاد الأوروبي من أي «سماح أو ترخيص للبث أو أي اتفاق حول عملية نقل المعلومات أو توزيعها أكان من الأشخاص أو من المؤسسات، وعبر وسائل: الكايبل أو الأقمار الصناعية، التلفزيون وموزعي الخدمات على الإنترنت والتطبيقات الإلكترونية».
وجدت روسيا سريعاً البدائل الإعلامية والإلكترونية بعد حجبها غربياً

مضمون شدّدت عليه لاحقاً «الهيئة الفرنسية العامة لتنظيم الإعلام الرقمي والمرئي» في فرنسا.
من جهتها، أطلقت «روسيا اليوم» الناطقة بالفرنسية، عريضةً على الشبكة العنكبوتية، تُدين فيها قرار الحجب الأوروبي، وتدعو المعترضين إلى التوقيع (حصلت وقتها على أكثر من 10 آلاف توقيع في غضون ثلاث ساعات).
هكذا، عرّت الحرب الدائرة في أوكرانيا المعايير الغربية وشعاراتها المنادية بالديموقراطية وحقوق الإنسان وحق الوصول إلى المعلومات، وحرية البث والإعلام والتعبير، مع تعاقب وسائل الإعلام الغربية، المنسحبة من الداخل الروسي، أو الحاجبة للإعلام الروسي في بلادها. لا يختلف اثنان على أنّ الحرب الروسية على أوكرانيا، كان سلاحها الأمضى الإعلام، الذي وقع بدوره ضحية للصراعات، والأخبار الزائفة والمفبركة، فغابت الحقيقة، لصالح صورة مجتزأة ومشوهة، واكبت العملية العسكرية في الداخل الأوكراني. لعلّ ما عزّز هذا الأمر، الحصار الغربي الذي تعرّضت له روسيا، على الصعيد الإعلامي والتكنولوجي والفني، في محاولة للتضييق عليها وعزلها. لكن واقعاً، أسهم هذا الحصار، في تعرية المنظومة الغربية، وخشيتها من الدب الروسي، وأدوات إعلامه التي حفرت لها موطئ قدم منذ سنوات في أوروبا، فلجأت إلى كتم صوته حين بات لا يناسب السردية الغربية حيال الحرب في أوكرانيا... إلى أن أطلّ برأسه القانون الروسي الجديد الذي أقره «مجلس الدوما» يوم الجمعة الفائت، والمتعلّق حصراً بالإعلام. إذ يجرّم القانون الذي وقعه رئيس البلاد فلاديمير بوتين، «التضليل الإعلامي»، الذي يخص المعلومات المتعلقة بالقوات المسلحة الروسية، وتصل عقوباته إلى 1.5 مليون روبل روسي، إلى جانب السجن 18 شهراً. قانون شكّل حافزاً جديداً للغرب، أو ربما ذريعة، لانسحاب المزيد من وسائل الإعلام الغربية من روسيا، على غرار CNN، وشبكتي CBS و ABC. كذلك أعلنت «واشنطن بوست» عن إزالة بعض المعلومات الثانوية في مقالاتها المنشورة «حفاظاً» على صحافييها المقيمين في روسيا. كما علّقت bbc، أعمالها الأسبوع الماضي، وعادت أخيراً لتستأنف التغطية باللغة الإنكليزية من الداخل الروسي بعد «مداولات متأنية».
اعتبر العديد من وسائل الإعلام الغربية أنّ القانون الروسي الجديد يستهدف الصحافة، وكان لافتاً هنا عودة شعارات «حقوق الإنسان» والحريات الأساسية إلى الواجهة تزامناً مع إقرار القانون، بعد مخالفة الغرب أصلاً لهذه القيم لدى حجبه الإعلام الروسي، ومحاصرته إلكترونياً.
وسط هذه الحرب المستعرة في الميدان، وفي قطاعَي الإعلام والتكنولوجيا، زاد التضييق أكثر على روسيا، التي لجأت إلى تطبيق «تليغرام» المشفّر، ودعت الأسبوع الماضي المتابعين إلى الولوج إلى موقعها عبر هذا التطبيق لتصلهم «آخر الأخبار» وليكونوا في «صورة ما يحدث في العالم». تزامناً، وجدت روسيا طريقاً آخر في وجه الحظر التلفزيوني في أوروبا، وانتقلت إلى القمرين الصناعيين «اي.أم.8»، و»إيه.إم.6» لعودة التقاط بثّها هناك. وبعد إقدام تويتر وفايسبوك ويوتيوب وغوغل وغيرها من كبريات الشركات التكنولوجية، على حجب المحتوى الروسي، نشط سوق التحايل التكنولوجي الذي يتيح للمتصفّح دخول مواقع إلكترونية محظورة في بلاده كتطبيقَي VPN، وTOR، لمعاينة المحتوى الروسي. تزامناً، أخرجت روسيا، بديلاً لفايسبوك، وفعّلت منصة محليّة تدعى «فكونتاكتي»، المستخدمة مجاناً في الداخل الروسي، وهي تعدّ من أكثر المنصات شعبية، إذ وصل عدد متابعيها إلى 73% عام 2021.