يُعدّ شوقي بزيع أحد شعراء الحداثة المعاصرين البارزين. وشعر الحداثة بمفهومه العام والمعاصر بشكل خاص، ينطبق على معظم نتاجه، وإن اختار أحياناً كتابة الشعر الكلاسيكي، لكن حتّى شعره الكلاسيكي من ناحية مبنى القصائد العموديّة، يمتاز بسمات الحداثة. «قمصان يوسف» من القصائد المتميّزة، وهي كمعظم قصائد بزيع، تجسّد جماليات الشّعريّة العربيّة الحديثة، وتقدّم قصّة النبي يوسف، بأسلوب جديد، ورؤية كاشفة، وكشف رؤيوي متعمّق، بلغة شاعرية عالية محلّقة وباذخة. القصيدة بمحورها العام، استحضار وتوظيف لقصة النبي يوسف، كما وردت في سورة يوسف في القرآن، وبتناص واضح مع السورة القرآنيّة. وقد وردت في ديوان «قمصان يوسف» الذي صدر عام 1996، عن «دار الآداب» اللبنانيّة، وتتكوّن القصيدة من ثلاثة مقاطع، توازي القمصان الثّلاثة في قصّة يوسف التوراتيّة والقرآنيّة.
المقطع الأوّل، «قميص التّجربة»: يخاطب الشاعر في هذا المقطع يوسف، عبر سرديّة رؤاه النبوئية، وفعل إخوته الحاسدين معه، فإلقائه في البئر، وتلطيخ قميصه بدم الشاة، كي يعيدوه إلى أبيه دليلاً على موته، متّهمين الذئب بافتراسه. وقد سمّى الشاعر هذا المقطع، بقميص التجربة، كون يوسف، مرّ بمحنته الأولى الكبيرة، بفعل إخوته. ويبدأ المقطع بما يتعدّى سجود الشمس والقمر وأحد عشر كوكباً له، كما رأى في حلمه الرؤيوي، بموجب القصّة الأصل، فيضع الشّاعر القبّرات وقلب الثّعالب، ونوم النمل في الشتاء، في موازاة الشمس والكواكب في عمليّة السجود. ما يجعل القصيدة تنسجم مع فكرة: «وحدة الوجود». ويدعو الشاعر يوسف، أو قناعه هو نفسه، المتخفّي في ظلال يوسف، أو أيّ حالة رمزيّة يشير إليها، بالعودة إلى نقطة الصفر، وهي نقطة البراءة، قبل خيانة الإخوة، ولكي يخلّص نفسه من «نرجسه المتوجّس من نفسه»، ويذهب هنا الشّاعر إلى تناص آخر مع أسطورة نرسيس، المعروفة، الذي كان منبهراً بجماله الذي أغرقه في النّهر، فيوسف أيضاً معروف بجماله العظيم بموجب الرّوايات. وشطر: «لا تصدّق جمالك/ صدّق ظلالك فوق الجدار»، هي تناص مع قصّة أفلاطون (المثل) في كتاب «الجمهورية». لكنّ الشاعر يعكس مدارك الحقيقة، فيجعل الظلال الحقيقة التي يجب تصديقها، لأنّ الوهم في حالات المأساة، هو راحة للنّفس، والحقيقة هي الألم، فالحقيقة هي خيانة الإخوة، ويَنهي الشّاعر يوسف من أيّ تعلّق بوهم الإخوّة، ويدعوه للهبوط إلى هاوية البئر، كي يستقلّ ويتفرّد بانقطاع كامل، فيستحق جماله.
المقطع الثّاني، «قميص الشهوة»: ينتقل الشاعر في هذا المقطع إلى قصّة يوسف مع زليخة زوجة عزيز مصر، التي أحبّته لجماله، وحين عصاها اتهمته أنّه حاول الاعتداء عليها، وقد برّأه قميصه الذي قُدّ من دبر، أي من خلاف، بموجب القصّة القرآنيّة.
يصف الشاعر في بداية المقطع يوسف (أو نفسه بقناع يوسف)، بعيداً عن الشّهوات الحسيّة، ويراوده الخجل «وتسبح صحراءُ من خجلٍ في عروقي»، ويعزو هذا الخجل وهذه العفّة، إلى برق إلهي مسّه، وإلى كونه خرج من البئر غريباً، وإلى تربية أبيه، كثلاثة مؤّثرات على نفسيّته، وقد تكون هذه المؤّثرات هي المؤثرات القويّة على نفسيّة وسلوك الإنسان، (الدينيّة، التربويّة، والظروف).
شطر: «لا تصدّق جمالك/ صدّق ظلالك فوق الجدار» هو تناص مع قصّة أفلاطون


لكنّه منذ أبصر زليخة (زوجة عزيز مصر)، اهتزّت هذه المؤثّرات، فهو يسلّم خوف أبيه للذئاب، ولحيته للرياح، أي أنّه يتحّرر من سلطة الأب وقيم سلطته، ويشعر بعد الاهتزاز بالانشطار، بين نفسيته القديمة والمستجدّة، «بعضي يحاربُ بعضي/ وتشهرني ضدّ نفسي السّيوفُ».
ويذهب الشّاعر هنا إلى المؤثّر الديني الذي تغلّب ما يجول في نفسه ورغباته عليه، فيقول: «كأن الصراع المؤبّد ما بين إبليس والله قد ضاق حتّى غدا بحدود القميصين». والقميصان هنا قميص العفّة والشهوة كما يصفهما. والصراع بين الله والشيطان يضيق في نفسه، أي أنّ النّزعتين المتضادتين توشكا أن تتصالحا. لكنّه لمّا «همّ وهمّت»، أي همّ بها وهمّت به، عند التقاء المشاعر والشهوات، في لحظة الضعف، أسدل الله من السقف مراياه، وهي «بُرْهَان رَبِّهِ» كما ورد في الآية القرآنيّة، فأحسّ أنّه يعانق نفسه، ويعدو وراء جمالها، متحرّراً من إثم الشهوة. وهذه فكرة صوفيّة، وهي فكرة الحلول، التي من أبرز أعلامها المتصوّفين الحلاّج، وتذكّرنا مرّةً أخرى أيضاً بأسطورة نرسيس الذي كان يعشق جماله، ويتوحّد يوسف والله وزليخة التي يراها الإثم الذي في داخله، وإثمه الآخر هو حزن أبيه بفقدانه، رغم أنّه غير مذنب إلاّ أنّه يشعر بالتّوجّس من جماله، وحبّ أبيه المختلف له. وبذلك بدأ يشعر بعقدة الذنب، كون جماله وحبّ أبيه له، أدّيا إلى حسد إخوته، ويعبّر عنه في جملة ختام المقطع «أعدو وراء جمالي/ ويعدو ورائي نباحُ الدماء المخيفُ». ونستطيع أن نطبّق على هذه الحالة السيكولوجيّة ما يسمى بعلم النّفس «عقدة بوليكرات»، وهنا استيقظت عقدة الذنب عند يوسف بعدما همّ بزليخة وهمّت به، فهرب منها ومن عقدة ذنبه، وهرب من صورة الله التي رآها في مرآته.

المقطع الثالث: قميص الرؤية
في هذا المقطع، يتحدّث يعقوب عن يوسف (يتقمّص الشاعر نفسية يعقوب)، فيصف يوسف بجماله وكماله، ويصف خوفه عليه منذ صغره، ووصيّته ألا يبوح برؤاه حول سجود الشمس والقمر والكواكب له، خوفاً عليه، من الحسد الذي قد يؤدّي إلى إيذائه. لكن عودة يوسف من «الموت» المعلن كما اعتقد أبوه، أعاد البصر والبصيرة ليعقوب.
وقد جاءت القصيدة على البحر المتدارك، الذي يدمج تفعيلات الخبب، (فعِلن، فاعل) مع التفعيلة الكاملة، (فاعلن)، وعلى بحر المتقارب (فعولن)، في المقطع الأخير. وتبدأ القصيدة ببداية سرديّة وصفيّة لا تخرج عن نطاق ما اعتدنا عليه في مثل هذه القصائد من وصف للمكان، والبيئة، وصفاً فوتوغرافياً دقيقاً، وهذا الوصف تدرّجي أو تدريجي (تمهيدي) يرمي من ورائه الشّاعر توتير الحدث بالتدريج لا إشعاله فجأة. ونجد في المقطع الأول من القصيدة، أنّ «الراوي» أو المتكلّم هو الشاعر نفسه. وفي المقطع الثّاني المتكلّم هو يوسف. أمّا في المقطع الثالث، فإنّ المتكلّم هو يعقوب. وهذه الأدوار المتنوّعة في السرد ليست عبثيّةً، فالشاعر يتحدّث بشكل بانورامي وشمولي عن يوسف من خلال إطلالةٍ وارتباط متعمّق بتجربته، مع إخوته. ولذلك سمّى المقطع «قميص التجربة»، لكنّه عندما تحدّث عن تجربة يوسف وزليخة، في مقطع «قميص الشهوة»، نراه يتحدّث بلسان يوسف نفسه، لكي يعطي هذا المقطع الذي تجيش فيه العاطفة، والصراع النفسي والنبوءة، زخماً وتكثيفاً أكبر عبر لسان يوسف كمتكلّم، فوصف نفسية يوسف وتوجّساته وصراعه الداخليّ وآية ربّه التي ظهرت له، لا تتّم بالقوّة ذاتها لو سردها الشاعر كمتكّلم خارجيّ.
أمّا المقطع الثالث، فقد جاء عن لسان يعقوب، ليعبّر بأقوى ما يمكن عن صفات يوسف وحبّه الاستثنائي له، وفقدانه، ونهاية الفاجعة، بلقائهما المتجدّد، ولا يمكن أن يعبّر الشاعر عن هذه العاطفة بلسان أفضل من لسان وقلب يعقوب. لذلك نجد أنّ الشّاعر قد أصاب في تنويع شخصيّات السرد، وكان هو نفسه من بينهم، ما أعطى القصيدة بُعداً متّصلاً مع روح الشاعر نفسه ورؤيته، ما يترك المجال الأوسع لفكرة القناع في هذه القصيدة.
ونرى في هذه القصيدة كسر الترتيب السردي الاطّرادي، رغم أنّ المقاطع الثلاث، من ناحية سردية، فيها تتابع للأحداث، إلا أنّها تكسر الأزمنة من داخلها، وأشير لهذا المقطع من القصيدة كمثال: «وسرُّك في أن تعود إلى نقطة الصّفرِ/ كيما ترى جسدكْ/ نظيفاً كجوهرةٍ في العراء، وكيما تخلِّص نرجسك المتوجّسَ من نفسه». وفي القصيدة أيضاً غوص إلى الداخل، فالشّاعر يغوص في نفسيّة يوسف ويعقوب، ويغوص في أعماق الحالة في القصة، ويغوص أيضاً في أعماق وأبعادٍ متجاوزةٍ للقصّة الأصل، تتداخل فيها سيكولوجية الشخصيات، ووصف متعمّق للأحداث، يُضاف إليه رؤية الشاعر نفسه بدعواه ليوسف ألاّ يصدّق جماله، بل ظلاله على الجدار، والغوص إلى آخر الهاوية، كي يقطع الصّلة النفسيّة مع زمانه الأوّل... وفي القصيدة أيضاً تحطيم لتراكب الأفعال، في بعض مقاطع القصيدة، وهذا المقطع كمثال:
«وإذ راودتني زليخةُ/ عن جنّتي شفتيها/ انشطرتُ وراح الملاكان يقتتلان/ على كتفيَّ الثّقيلين»
وفي القصيدة يتجلّى بشكل واضح توسيع دلالة «الواقع» وفي هذه الحالة، القصّة المعروفة، وبذلك أصبحت القصة الأصليّة أكثر شاعريّة في تحولاتها الشعريّة المولدة.
التّناص في القصيدة مع سورة يوسف في القرآن:
القصيدة
سورة يوسف
عراكُ المجرَّات
من أجل نجمٍ تغازله الشّمسُ
من خلف ظهر الفَلَكْ
كلّها الآن تسجدُ لكْ
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (الآية 4)
ولكنَّ سَرّكَ في أن تكون جديراً بسحرك
في أن تخضَّ المياه التي سكنتها الشّياطينُ
كي تستعيد البراءةَ،
أو تستعيد بجذع اختياركَ
من حاسدٍ حسدكْ
قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (الآية 5)
فهذا الزّمانُ الّذي برّأ الذئبَ
من شبهة الدم فوق قميصكَ ليس زمانكْ
قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (الآية 17)
وإخوتك اتحدوا مع قميصكَ
ضدَّ دموع أبيك
وَجَاؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (الآية 18)
وإذ راودتني زليخةُ
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي (الآية 26)
فلما هممتُ وهمّتْ
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا (الآية 24)
تدلّت مراياهُ من خشب السّقفِ
حتى حسبتُ بأني أعانق نفسي
وأن زليخةَ ليست سوى
صرخةِ الإثم في داخلي
فاستدرتُ إلى الخلف
لَوْلا أَن رأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ
(الآية 24)
سترى الشّمس خاشعةً
والكواكب ساجدةً تحت رجليكَ
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً (الآية 100)
تهبُّ على بيت يعقوب
حاملةً مع قميص ابنه
نجمتين اثنتين،
تصبَّان في بئر عينيه ضوءها المشتهى
وتعيدانه من عماهْ
اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (الآية 93)
ونستطيع القول إنّ شوقي بزيع، يجسّد إدراكه ووعيه ورؤيته الخاصّة، عبر التحليق في آفاقٍ جديدة، في سماء قصّة معروفة، أضاف إليها خاصيّةً ورؤية جديدة، بلغةٍ لم تكتف بالمحاكاة، وإنّما بإعادة الصّياغة، في ما يتعدّى النصّ. ونرى أنّ قصّة يوسف تجدّدت بجماليّات اللغة والرؤى الشعريّة، فيما تحاكي القصّة الأصل، من ناحية تفاصيل سرديّة. وبما أنّ في هذه القصيدة «قمصان يوسف» تتجلّى عناصر الكشف، فهو يدخل في أعماق النفسيّات، نفسيّة يوسف ويعقوب، ويكشف عن خفايا النفوس والنّبوءات، والواقع والتطلّع، فإنّها جاءت غامضةً، وقد استطاع بزيع استلهام التّراث بروح معاصرة.
* شاعر فلسطيني