إن العلاقة بين النسوية والمؤسسات الدينية جدليّة في البلدان العربية وحتى خارجها. للنسوية ـ كحركة اجتماعية لنيل الحقوق ـ تاريخ من الجدل مع السلطة الدينية القائمة والكامنة في التاريخ المسيحي والإسلامي على حد سواء. ذلك أن نظيرة زين الدين أعلنت منذ 1928 عن إمكانية اضطلاع النساء بتأويل وتفسير القرآن، وأنّهن أولى من الرجال في تفسير ما يتعلق بهن من الآيات. وقبلها نافست مسيحيّات رجال الدين في تفسير النص التوراتي واللاهوت المتعلق به وبمنزلة النساء. بذلك، تقاطعت النظرة النسوية مع الدراسات الدينية، فاستنفرت عداء أصحاب السلطة الرمزية الدينية التقليدية، أي أولئك الناطقين التقليديّين باسم المعنى الديني وما يترتّب عنه من سلطة قضائية أو سياسية أو اجتماعية.لقد مثل السفور والحجاب مثلاً معركة من المعارك المفصلية في علاقة النساء بالمؤسسات التقليدية في بلدانهن، كالأزهر وشيوخه والنظارة العلمية لـ «الزيتونة» الذين كانوا قوّامين على الدين وعلى الشريعة. وبذلك، فإن نشأة جمعيات نسائية من رحم «الزيتونة» نفسها، كان نتيجة تطور طبيعي ونتيجة الضغط التاريخي على هذه المؤسسات التي استجابت للواقع الاجتماعي، وحاولت أن توفّق بين هذه المطالب المستجدة للنساء في المشاركة في الحياة السياسية وفي العمل المجتمعي والتعليم والعمل. غير أنّ هذه العلاقة سرعان ما تطورت عبر السنوات، لتشهد صراعاً عنيفاً ضد نشأة حركات ذات توجّه سياسي تستخدم الدين كأيديولوجيا للوصول إلى السلطة. بذلك وجدت الحركة النسوية نفسها في مواجهة تيارات الإسلام السياسي، ففي الصراع الدائر منذ التسعينيات إلى اليوم، نجد النسويات والفكر النسوي في مواجهة مباشرة مع الصحوة والتمكين السياسي لـ «النهضة» التونسية، على أساس أن هذه المرجعيات الصحوية تهدّد مكاسب النساء و«مجلة الأحوال الشخصية» التي صاحبت التوقيع عليها موجة هائلة من رفض الزواتنة وقوى الجمود المحافظة في الأيام القليلة التي أعقبت الاستقلال.
إن النسوية التي نتجت من رحم الدولة الوطنية، لعبت أدواراً مزدوجة لخدمة النظام السياسي ومقاومة أعدائه، وأحياناً على حساب قيم النسوية الحقيقية ذات الاستقلالية المادية والأيديولوجية، غير أنّ أوجه الصراع بين النسوية والتديّن الصحوي ستبلغ أوجها بعد الثورة التونسية حين عاد الغنوشي، محمّلاً حزمة الشعارات التي تهدد النساء وحقوقهن. رأينا حراكاً هائلاً للدفاع عن المكاسب والحيلولة ضد مبدأ التكامل المقترح في دستور 2014، ولمقاومة مخاطر عديدة للانتكاس والردّة عن حقوق عديدة كحق الطلاق والعمل ومنع تعدد الزواج، وكحق الإجهاض ومنع العنف وتجريمه. طيلة العقد الفائت، وجدت النسوية التونسية نفسها في صراع عنيف مع السلفيات والجهادية والخطاب الديني المنفلت غير المنضبط للحياة المدنية والمتوجّه نحو الاستقطاب والتهجير واستخدام الشباب كوقود للحروب.
صنف ثانٍ من الحراك النسائي، ينبع من داخل «الزيتونة» نفسها بوصفها مؤسسة جامعية لا مؤسسة دينية. فالزيتونة فقدت فعلياً صفتها كمرجعية دينية وصارت تتّبع الدولة ووزارة التعليم العالي تحديداً، فهؤلاء الفاعلات في الحقل الجامعي يسعين للمساهمة في تطوير تأويل النص الديني وجعله مطابقاً للمطالبة المعاصرة بالمساواة والحقوق على أساس تأويلي ولغوي وباستخدام التفسير النسائي للقرآن حيث تتراكم معارف دينية نسائية هدفها تمكين النساء من معارف جديدة لا تتناقض فيها مصالح النساء مع حاجتهن للدين وللاعتقاد.
إنّ التطور المتسارع للنساء في مجال المعارف الدينية وارتفاع أصواتهن جعلهن في منافسة حقيقية وواضحة مع رموز التدين الرسمي غير التلقائي. أما أدوارهن المزدوجة من جهة في البحث عن معنى داخل الثقافة المشتركة، ومن جهة ثانية في إقرار مبادئ الحقوق الكونية، فإنها تجعلهن في مرمى اتهام جميع الأطراف. فلسن محظيات برضا الحداثيّين ولا المحافظين. غير أن تقدم وتراكم أفعال ومعارف هؤلاء الفاعلات بفضل التعليم وبفضل الانفجار الهائل للوسائط الاجتماعية، مكّنا هؤلاء النساء من امتلاك حيّز للتعبير عن ذواتهن وآرائهن وجعل صوتهن مسموعاً.
إنّ الشق الثالث من النسويات هن هؤلاء الرافضات للحوار مع الرموز الدينية واللواتي يسعين لفرض حداثة قانونية على أساس الفصل بين الدين والقانون. غير أنّ جميع الأحداث الجارية في البلاد التونسية منذ 2011، أبرزت أهمية العامل الثقافي الديني، وكونه مكوّناً من مكونات الهوية. النسوية التي تتجاهل فهم وقراءة الخطاب الديني ولا تملك أدوات التحليل النصية والتأويلية، لا يمكن أن تنطلق من واقع النساء لتبلغ المنشود.
إنّ المعارف المتراكمة وقدرة الباحثات المتزايدة على ولوج أسوار المعارف الدينية جعلهن في تنافس من أجل حقوقهن مع رموز السلطة الدينية التقليدية التي كان يحتكرها رجال اعتبروا أنهم فوق البشر وأقدر على فهم النصوص المقدسة. لكن الصراع اليوم ليس فقط من أجل فهم النصوص وفرض الدلالات المناسبة، بل فضح حقيقة الرهانات الكامنة وراء بناء ومأسسة السلطة الدينية. وتلك الرهانات ذات طابع اقتصادي ازدادت مع اقتصاد السوق وتعقّدت وتقاطعت مع أشكال الاستبداد التقليدية. لذلك نجد نسوية تقاطعية شابة صاعدة بقوة التاريخ من براثن الصراع الطبقي الحالي ومن تحت رماد أزمة الاقتصاد العالمية التي عمّقها الوباء وزادتها السجالات السياسية في تونس تعقيداً.
يمكن القول أخيراً بأن الفضاء الأخير للمعركة الحقيقية بين النساء والمؤسسة الدينية، لن يكون المسرح الاجتماعي المادي الملموس، بل هو رمزي ومتخيل. فكلما حاولت البنى الأبوية فرض أسوار الحريم على النساء، اخترقت النساء تلك الأسوار تارة بالحيلة، وطوراً بالمعرفة العلمية، وصرن قادرات لا على اختراق تلك الأسوار فحسب، بل أيضاً هدمها وبناء عوالم جديدة مختلفة كلياً عن عوالم المجتمع التقليدية.

* باحثة تونسية في مجال الحضارة العربية الإسلامية وتحليل الخطاب الديني