يرحّب بنا المخرجان اللبنانيان جوانا حاجي توما وخليل جريج («يوم آخر»، و«بدي شوف»، و«النادي اللبناني للصواريخ») في ذاكرتهما لنُشاطرهما شغف المراقبة. يضعاننا في مكانهما برهة من الزمن، نتماهى معهما. نعيش تجربة البحث والتنقيب في الذاكرة، بنضج سينمائي كبير، ومعرفة واسعة بقوة الصورة في عالم نبتعد فيه عن التفكير في الشاشة الكبيرة. يأخذاننا معهما إلى سحر الصالة، إلى سطوة الشاشة، والتجربة السينمائية وآثار الذاكرة رغم أنها تبتعد عنا عقوداً كثيرة. «دفاتر مايا» لا يكشف واقعاً لا تعرفه الشخصيات، لكنها عندما تواجهه، يختلف الأمر. عندما تراه، تُصدم بردود أفعالها المفاجئة. من ناحية، كل شيء في مكانه ليكون «دفاتر مايا» قصة آسرة ذات قوة عاطفية واجتماعية. ملتزم بالحديث عن الثقة والحقيقة والحب والمثابرة ونتائج الحرب على المراهقين والعائلات والمهاجرين والهاوية بين الحاضر والماضي، وسمته الأساسية هو تأثير الذاكرة على الحياة واختيار احتضانها أو تركها وراءنا. من ناحية ثانية، صنعا خليطاً تمتزج فيه قصاصات الصور والرسومات والصوت والموسيقى معاً، لمحاكاة كيفية تأثيرها على العقل. «دفاتر مايا» يستخدم تقنيات السينما التجريبية لصالح سينما روائية، ليلائم الشكل والمحتوى بسلاسة، بحيث يستحيل إبعاد أعيننا عن الشاشة، وبكاميرا حنونة تربت على شخصياتها النسائية. يقارن «دفاتر مايا» الحياة الرقمية في عالم اليوم والذكريات المادية للأجيال السابقة.في صباح عاصفة ثلجية يوم عيد الميلاد في كندا، تصل حزمة من بيروت إلى منزل مايا (ريم تركي/ منال عيسى) وابنتها المراهقة أليكس (بالوما ڤوتييه). يشمل الصندوق الكبير دفاتر وصوراً فوتوغرافية وقصاصات ورق وكاسيتات أرسلتها مايا خلال حقبة الثمانينيات إلى صديقتها العزيزة ليزا (ريم خوري) التي انتقلت إلى باريس مع والديها هرباً من الحرب الأهلية. قررت مايا الإبقاء على الصندوق مقفلاً، ومنع أليكس من الاطلاع على محتواه. ولكن بالطبع، لا شيء يثير الفضول أكثر من الممنوع. تستاء مايا من معرفة القليل عن والدتها المنغلقة عاطفياً، وتبدأ التنقيب في الصندوق. تبدأ سراً البحث عما هو موجود، وتتبع ترتيب الدفاتر والأشرطة المكتوبة والمسجلة في الثمانينيات بجماليات ذلك الوقت. تكتشف صداقات مايا، ذكريات الحرب، علاقتها مع والدتها ووالدها، وحبها الكبير لرجا (حسن عقيل/ ربيع مروة)، ولبنان الذي مزّقه الحرب. في فيلم مبني على دفاتر جوانا حاجي توما الحقيقية وصور خليل جريج خلال الحرب، خلق الاثنان احتفالاً بصداقات المراهقة وقصيدة لشباب خنقهم الصراع المسلح.
يتأرجح بين الماضي والحاضر عن طريق تحريك الصور والكولاج والموسيقى


من خلال هيكل الفيلم، يمكن أن نرى الخيوط الدرامية. من الواضح أن هناك سراً لا يجعل الأم والجدة (كليمانس صباغ) ترغبان في مراجعة الماضي. لكن العواطف تظهر عندما تبدأ أليكس في التواصل مع ماضي والدتها، ويصبح «دفاتر مايا» شريطاً تزداد فيه الأحاسيس التي تؤدي إلى إمكانية التصالح مع تاريخ كل فرد. يصبح هذا الكنز الآتي من الماضي الذي اعتبر في البداية عدواً هو في الواقع فرصة ثانية لإعادة بناء جسر مع ماضٍ مدفون. يتأرجح الفيلم بين الماضي والحاضر، تتم هذه الرحلة عن طريق تحريك الصور والكولاج. يأخذنا المخرجان إلى الماضي من خلال الصوت والصور بينما نرى الحاضر، نسمع الماضي، ونشاهد صراع اليوم. موسيقى الماضي (Singue Singue Sputnik، killing joke، Blondie) تعود لتحيي رتابة الحاضر. عندما تنظر أليكس إلى الصور الباهتة وغير الواضحة، تنبض الصور بالحياة، لا تفقد الصور تأثيرها، بل تصبح واقعاً ملموساً. تستحوذ الحرب على الذاكرة نفسها، تلوّن كل صورة، وعندما تكون الصورة مشبعة بالحب، تصبح القنابل التي تنزل على بيروت ألعاباً نارية في سماء الليل. تحرق الصواريخ الصور، والقنابل تترك علامات على الشاشة وتحرق المساحات المتبقية على صورة أولئك الذين تم تصويرهم. بهذه الطريقة، يضخم «دفاتر مايا» الذاكرة ويجعلها كثيفة بشاعرية ميتافيزيقية، حيث تتداخل الصور مع الإحساس والذاكرة والخيال والواقع. مرة أخرى، يستخدم الزوجان طرقاً متعدّدة الأوجه من مواد أرشيفية عن حياتهما لبناء مقطع من الأمس، قريب جداً من الواقع.
بعد ساعة من الزمن، يبتعد الفيلم عن السمات الإبداعية. ينتهي به الأمر إلى السرد الآمن والتقليدي. ما خدم الفيلم في قسمه الأول يخفّ مع تقدم الدقائق. تنتهي الخيوط السردية ويتم الكشف عن الأسرار بطريقة مباشرة. يصبح «دفاتر مايا» فجأة تقليدياً. يبتعد عن الحرية السينمائية التي بدأ فيها، وتنضب الاكتشافات المنعشة. يتحول الكولاج من عناصر هيكلية للفيلم إلى عناصر زخرفة. تعلو نسبة الميلودراما، ويعجز عن متابعة أفكاره، وينتهي الأمر بنهاية سعيدة جداً، آمنة، لكن مقبولة. مع ذلك، فإن «دفاتر مايا» هو علاج، هو الصدمة، هو الإنقاذ الذي تحتاجه الشخصيات لمواجهة الوطن التي تركته وراءها. «دفاتر مايا» فيلم عن غرباء، عن عائلة، عن ثلاث نساء، كل واحدة بتجربة زمنية خاصة. فيلم مثل أحلام اليقظة، تصوّر جميل للذكريات المصورة... وبيروت الذي أبعدت الجميع، بتناقض غريب، تعثر عليهم بعد عقود، وتصبح كياناً روحياً تشبه الشخصيات جداً. على الرغم من كلّ الأسرار والاعترافات، لم تترك هذه الشخصيات عواطفها تنطلق بحرية: لقد بقيت كلّها مثل بيروت شيئاً مكبوتاً.

«دفاتر مايا» في الصالات