يبدو الحديثُ عن المُفكّر العراقي الراحل هادي العلوي (1932- 1998) مَزْجاً جدليّاً فريداً بين الرّوح والمادّة، سواء قارنّاه بتجارب ذلك الجيل من مثقّفي الماركسية العرب، أو نظرنا إليه انطلاقاً من واقعنا الراهن الذي يتكسّر عن روحٍ أفسدتها لوثاتُ الأصوليّات الدينيّة والرّجعية، ومادة لم يتبقّ منها سوى الاستهلاك والترفيه الخبيث. وكي لا يذهبَ توصيف العلوي نحو الأسطرة والمثال، فإنّ ما تحلّى به العلوي من انضباط سلوكي في حياتِه اليوميّة البسيطة، وواقعية فكرِه يختصران الكثير، ويدُلّان على سبب تلك الفرادة، فرادة الإنسان البسيط والعادي قبل المُثقّف. وعى العلوي الظّرفَ التاريخي في القرن العشرين الذي دفعَ بفكر الماديّة التّاريخيّة لتكونَ ذروة ما تتطلّعُ إليه جموعُ المقهورين، وأيقنَ بضرورتها السياسيّة، أي الثورة البلشفية بقيادة لينين 1917، بينما لم يَحِدْ في الوقت عينِه عن استنهاض مشرقيّتهِ الرّاسخة. لا بل يُمكنُ القول إنّه حمَلها في قلبه عندما كان في العراق، ورفعها عالياً فوق كتفيه في رحلة المنفى الطويل بين لندن وبكين وبيروت ونهاية المطاف في دمشق. تشرّبَ وجدانُ العلوي فلسفة كارل ماركس أو «الشّيخ الألماني» كما كانَ يُسمّيه، وإرادة لينين في العنف الثوري. بيد أنّ عقلَه ظلّ يستريحُ إلى لزوميّات أبي العلاء المعرّي وفصوص حكم ابن عربي، وقوّة الموقف الاجتماعي لقطب الصّوفية الأعظم عبد القادر الجيلاني الحنبلي. كذلك هو العلوي، صلابتُه تكمنُ في لينِه، ومادّيتُه تنهلُ من روح الشرق بمعناه الممتدّ من بلاد ما بين النّهرين وشبه الجزيرة العربية «مهد اللقاحيّة الأولى» وانتهاءً بالتراث الصّيني الإشراقي عند لاوتسه. إلى هذا المعنى العريق استندَ، وبذرّات العامّة أو الخلق (اقرأ الشّعب) اتّحد، لو استعرنا شيئاً من المعجمِ الصّوفي الأثير في لغتِه وتراكيبه.
لذا عرّف عن نفسه بـ«مرتقى الحضارتين» اللقب الذي تنعقدُ عنده أواصرُ التّاريخ بمفهوم الكونيّة الحقّة. لكنْ قبل الكونيّة، كانت هناك رحلة أشقّ ألا وهي الانتماء، إذ لم يبنِ فيه العلوي على فراغ، إنّما هو مسارٌ من المواجهة ضد السلطة: سلطة المال، وسلطة رجال الدّين وسلطة المثقفين، ومجموع هذه السُّلطات أطلقَ عليها الخساسات الثلاث، ومن يقوم عليها وفي خدمتها هم الأغيار. نلاحظ استعانته في مواجهتها بمعجمٍ نَحتَهُ من حكايات المتصوّفة التي «تُذاقُ ولا تُحكى» في حين كان أقرانُه من المثقفين العرب يُصرُّون على استقدام ماركسية مُترجَمة، فيها الكثير من العلم والثقافة، نعم، لكنّها فقيرة بالرّجاء والانتماء. هذا ما جعلَ منجزَه في قراءة التّراث يتلاقى مع منجز صاحب النّزعات الماديّة في الفلسفة العربية الإسلامية حسين مروّة، والميراث الفكري للشيخ عبدالله العلايلي، بقدر ما تتلاقى ماركسيته مع روح مهدي عامل وتوقها إلى التجديد والتبييئ.
الكونيّة ليست التضامن الساذج مع الرجل الأبيض، ولا التّسليم بأنّ التراث الإسلامي محطّ سخرية وتهكّم


انكبّ العلوي في مرحلة باكرة على التفقُّه بالتّراث الإسلامي، بيد أنّه لم يَنسَقْ مع سحر الكلمة ولا سطوتِها، وآثرَ مقاومةَ آفةِ العِلم الزّائف، مُمَكّناً خطوته في أرضٍ تميدُ بالانقلابات والمؤمرات وسفك الدماء، وتُسخّر فيها الثقافة والدين في غاية السلطان. وعند مفترق الطّرق ذاك، وجدَ في الماركسيّة النّهجَ العلميّ المنشود، الذي ما إنِ التزمَه حتّى توسّعتْ مداركُ انتمائه وبدأت لحظة المفاصلة الكونيّة في مسيرتِه. فالكونيّة في فكر العلوي ليستِ التضامن السّاذج مع الرّجل الأبيض، ولا التّسليم المُطلَق بأنّ التراث العربي والإسلامي هو محطّ سخرية وتهكّم ولا خير فيه. من هُنا شرّحَ ما قامَ به سلمان رُشدي، وهل قضيّتُه قضيّة ضمير وتمرُّد حقاً؟ لو أنّ العلوي ما زال حيّاً ورأى مآلَ رُشدي وهو يُنافِح عن الإمبراطورية بشراسةِ الكاره ذاته، ويجمعُ التوقيعات والعرائض، ما كانَ ليُضيفَ كلمةً واحدة، سوى ابتسامة مُشفقة.
تأسّستِ الكونية عند العلوي على بُنيّة الوعي الخلدوني العلمي للتاريخ، كما على الموقف الوطني الذي يرى في عمر بن الخطاب امتداداً لأنفةِ ملكة تدمر زنوبيا وهي تواجهُ الغزاة. وعلى الطرف النقيض، يرى في سلمان رُشدي ما رآه عبد الرحمن مُنيف بـ«المُنْـبَتّ» الذي وصفَه الرسول محمد «إنّه ولا أرضَاً قطع، ولا ظهراً أبقى». عليهِ لم يتماهَ العلوي مع خطاب المركزيات التّاريخيّة ولا الجغرافية، وهذا يفتحُ المجال للنظر في أثرِه من زاوية سعيديّة، خاصّة لما بينَ الاثنين من موقف تفكيكي للإمبريالية ودورها في الهيمنة على سرديات المغلوبين، وتلزيمها بتواريخ أوروبا الاستعمارية، وفقهِ الزمن من ذلك المنظار فقط.

لو أنّه ما زال حيّاً ورأى رشدي يُنافِح عن الإمبراطورية، ما كانَ ليُضيفَ كلمة سوى ابتسامة مُشفقة


إذاً، عندما تُدركُ في أيّ زمن تعيش وتنتمي، يسهلُ عليكَ وعيُ ذاتِك، ولا تعودُ بحاجة لمن يشرحُ لكَ أو يُلحِقُكَ به كـ«مُتخلّف» أبدي. تصبحُ قضاياك الحقّة في المقاومة ممزوجة بمعيشك اليومي، لا مؤجّلة ولا مُرحّلة حتّى يُقررَها عنكَ عدوّك، وإن كانَ هذا الأخير يتسلّطُ بثقافة الأبراج وناطحات السّحاب وأنتَ ليسَ لك من الأرض سوى الطّين. من هنا يستحضرُنا عملان من أعمال العلوي فيهما إشارات لمّاحة لما بين الزمن والمقاومة من علاقة وطيدة، الأوّل هو كتاب «نظرية الحركة الجوهريّة عند المُلّا صدرا الشيرازي». ولو أنّ مضمون هذا الكتاب ينوسُ بين مفاهيم الفيزياء والفلسفة (هُناك طُرفة كان العلوي يقولها عن هذا الكتاب بأنّ كلّ كتبه كانت ممنوعة في العراق، إلا هذا الكتاب، فكان مسموحاً به لصعوبة موضوعه وتعقيده)، بيد أنّ التفاتَ العلوي لشخصيّة الفيلسوف صدر الدين الشيرازي يأتي بوصفهِ مُفتتحاً لزمن النّهضة الفلسفية الجديدة، قبل لايبنز وسبينوزا، وقبل غزو نابليون الدموي لمصر. أمّا الكتاب الثاني فهو «مدارات صوفيّة». وحسبنا ما تشفّ به كلمة مدار من إحالةٍ أبديّةٍ إلى التّاريخ المُتقدّم، هذا إذا لم ننفتح على ما فيه من مسردٍ حكائي مقاوم من التراث العربي والإسلامي. الحكايات التي تُذاق ولا تُروَى، الحكايات التي تساءلَ غرامشي يوماً «مَنْ يرويها؟ إذا كان المنتصر هو مَن يكتبُ التاريخ؟»... فهل من إجابة ألطف للردّ على غرامشي بالقول: يرويها هادي العلوي.