بدأتُ بتحقيق هذه الوثائق صيفَ 1997 بتكليف من والدي. وقد استغرق العمل ربع قرن. لأجل الحفاظ على سرّية مراسلاتهم، استخدم الثوار والوطنيون السوريون أسماء حركية، وشيفرة جمعية «العربية الفتاة». تسهيلاً على الباحثين، أعددتُ كشافاً تحليلياً يحوي ملخّصاً لمحتوى هذه الوثائق، وكشافاً بالموضوعات.
الفقراء أو «مرقّعو العبي» كما لقّبهم سلطان الأطرش، التفّوا بفطرتهم حول هذه الثورة

يمتدّ تاريخ هذه الأوراق/ الوثائق من 1910 إلى 1989.
الكتاب هو خمسة مجلّدات:
الجزء الأول – وثائقه من 1910 إلى 1925.
الجزء الثاني – وثائقه من 1926 إلى 1927.
الجزء الثالث - وثائقه من 1928 إلى 1930.
الجزء الرابع - وثائقه من 1931 إلى 1938.
الجزء الخامس - وثائقه من 1940 إلى 1989.
الملاحق: وثائق الحسابات والإعانات؛ الكشاف التحليلي بآخر كل جزء؛ كشاف بالموضوعات؛ خريطة معارك الثورة السورية الكبرى وامتداداتها في سوريا ولبنان؛ الصور والبيبليوغرافية.
■ ■ ■

بقيَ سلطان الأطرش لآخر يوم في حياته يحمل همّ الوطن وفلسطين والجولان، ساخطاً على العرب، الذين بدا أنهم قد قرّروا التفريط بالحقوق العربية...
لقد أدرك مبكراً مطامع الاستعمار في بلادنا العربية، وساهم بزخم في الثورة العربية الكبرى 1916- 1918وكان له ولرفاقه من بني معروف شرف دخول دمشق ورفع العَلَم العربي على سراياها قبل الجيش الفيصلي وجيش أللنبي البريطاني بيومين، بعد معركة شرسة ضد الأتراك والألمان وهزيمتهم في تلول المانع. رفض بإصرار أيّ منصب سياسي في الحكومة الوطنية، كما أنه فعل الشيء ذاته بعد الجلاء. كان يقول للسياسيين: «لا تفرّطوا في استقلال البلاد الذي دفعنا أرواحنا ثمناً رخيصاً له».
لم يتخلَّ طيلة حياته عن شعار الثورة، «الدين لله والوطن للجميع»، رافضاً تقسيم البلاد طائفياً.
جاءت الثورة بشعارها وأهدافها الواضحة في ذهن قائدها منذ انطلاقها، وهي: وحدة البلاد السورية، ساحلاً وداخلاً والاستقلال التام. هذا ما أعلنه سلطان الأطرش في بيانه «إلى السلاح»، بعد سحق الثوار لجيش فرنسا في «معركة المزرعة» (2-3 آب 1925)، إذ كان تعداد حملة الجنرال ميشو 13000، وقد هُزموا أمام 400 ثائر من جبل العرب: إنها هزيمة ترجّع صداها في القارة الأوروبية... ومَن قال «إن العين لا تقاوم المخرز ؟!»
كان موقفه من العِلم ثابتاً فهو يقدّسه، وقد سعى في المنفى إلى أن يتعلّم أبناء الثوار وبناتهم وأن يتمّ بناء مدرسة لهم في الصحراء.
كان سلطان الأطرش يعتبر أن الثورة قد دامت 12 عاماً، لأنّ رفضه تسليم السلاح هو ورفاقه الثوار يعني استمرار المقاومة وعدم الاستسلام للاستعمار.


كان السياسيون دوماً يراسلونه لأخذ رأيه أثناء سنوات المنفى العشر، إذ انعقد مؤتمر الصحراء برئاسته في تشرين الأول (أكتوبر) 1929، فاتُّخِذَت قرارات من ستة بنود، أهمها استنكار الثوار المرابطين في الصحراء لتعطيل أعمال الجمعية التأسيسية في سوريا وتصريحات بونسو الذي تجاهل القضية الوطنية السورية، واستنكارهم لمقرّرات مؤتمر زيوريخ الصهيوني واعتداءات اليهود على العرب، مطالبين وزارة العمال البريطانية بإلغاء وعد بلفور والاعتراف بحقوق العرب الوطنية وسيادتهم في بلادهم لضمان السلام العالمي.
إنّ قيام الثورة في جبل العرب ضد الانتداب الفرنسي، أخذ طابع الانسجام مع ما سبقها من تحرّك وطني قام به بنو معروف: فهم ملتزمون بوحدة البلاد وتحريرها.
كانت المقاومة في جبل العرب مستمرّة: منذ مناهضة الأتراك، 1910؛ إلى إيواء سلطان الأطرش للعرب الفارّين من الجيش التركي في داره؛ إلى انضمامه إلى الثورة العربية الكبرى؛ إلى الذهاب لنجدة وزير الحربية يوسف العظمة في 24 تموز (يوليو) 1920، ووصول فرسان جبل العرب وعلى رأسهم سلطان الأطرش إلى بلدة براق، حيث جاءهم نبأ استشهاده؛ إلى رغبة سلطان الأطرش بتنظيم المقاومة في جبل العرب تحت راية الشرعية في سوريا، إذ دعا الملك فيصل الأول للاستقرار في جبل العرب بدلاً من الرحيل إلى أوروبا، 1920. ثمّ إلى الانتفاضة الأولى ومعركة تل الحديد في تموز 1922 لتحرير الثائر أدهم خنجر؛ إلى الثورة السورية الكبرى في تموز 1925، واستمرار المقاومة، برفض الاستسلام للعدو وبرفض تسليم السلاح لعشر سنوات؛ إلى دعم قضايا العرب الكبرى بعد الجلاء على رأسها قضية فلسطين والجولان.
انضمّ عرب من غير السوريين إلى صفوف الثورة، ومنهم الأمير عز الدين الجزائري. وساند الزعيم الوطني المصري سعد زغلول الثوار السوريين بقيادة سلطان الأطرش وأيّد استقلال سوريا. كانت ثمّة علاقة بين الثورة السورية الكبرى وثورة الأمير عبد الكريم الخطابي في ريف المغرب التي ساهمت في تخفيف الضغط عن ثورة 1925.
بعد معركة المزرعة، اضطرّت السلطة الفرنسية لطلب الهدنة، قبل استجابة زعماء الحركة الوطنية في دمشق لنداء الثورة في جبل العرب، لتعميمها على الأراضي السورية واللبنانية. وانتهت المفاوضات مع الفرنسيين قبل وصول وفد الوطنيين من دمشق! وكان الشرط الذي وضعه سلطان الأطرش على المفاوضات مع الفرنسيين هو ألا تتعدّى الأيام الثلاثة. إذاً، القول إن هذا الوفد أتى لمنع الثوار من التسليم للفرنسيين افتراء وخطأ تاريخي فادح!
في «مكتبة الأسد الوطنية» وثيقة يعترف فيها القنصل البريطاني في المشرق لوزارة خارجيته أن سلطان الأطرش رفض بعناد كبير التعاون مع بريطانيا؛ وكتب قائلاً: «سلطان الأطرش لا يمكن شراؤه». وهذا ينفي نفياً قاطعاً مزاعم الفرنسيين الكاذبة بأن بريطانيا دعمت الثورة.
في أثناء التحضير للمعارك، كان القائد العام للثورة يضع الخطط العسكرية بالتشاور مع القادة الميدانيين، كي تلائم جغرافية منطقة المعارك، وينسّق دائماً مع القادة الذين يرسلهم في حملات خارج الجبل، ومسؤوليته هي تأمين الذخيرة لهم.
كان سلطان باشا الأطرش والدكتور عبد الرحمن شهبندر على تواصل مستمر في كل شؤون الثورة، ولذلك، فمن الخطأ الفادح تقسيم المهامّ بين قائد عسكري وقائد سياسي.
كان ثمة وعي كبير لدى القيادة العامة لحساسية المسألة الدينية والطائفية، لذلك رُفِع شعار «الدين لله والوطن للجميع»، خاصة حين توجّهت الحملة إلى إقليم البلّان وراشيا وحاصبيا في لبنان، كي لا تُستَغَلّ المسألة الطائفية ضد الثورة.
وبناءً على إيمان سلطان الأطرش بحقّ الفلسطينيين، والعرب عامةً، بأرضهم وببطلان الاستيطان الصهيوني فيها، رفض التفاوض مع الصهاينة.
ساهمت جاليات الاغتراب السورية واللبنانية في جمع التبرعات للثورة من الوطن العربي والمَهاجِر الأميركية: مثال: أعضاء حزب سوريا الجديدة وأعضاء العديد من الجمعيات الخيرية والنسائية في الأميركَتين. كذلك أتت المعونات من القدس بإشراف الحاج محمد أمين الحسيني.
كان القائد العام يعي منذ عام 1916 أن ما يقوم به من جهاد هو في سبيل الأمة العربية ثم في سبيل سوريا التي هي جزء لا يتجزأ منها. وهذا ما يدحض أقوال المغرضين الذين يصرّون على أن الثورة بدأت من أجل أهداف محليّة ولم تكن تحمل رؤية عربية سورية شمولية، فقام «بتصحيح» مسارها الوطنيون الدمشقيون. فوثائق هذا الكتاب الصادر اليوم تثبت أن سلطان الأطرش يحمل رؤية عربية سورية شمولية لتحرير الوطن بعيداً عن النظرة المحليّة الضيقة.
في ما يخص عنوان هذا الكتاب، أورد جزءاً من تمهيد كتبه منصور الأطرش في كتاب «أحداث الثورة كما سردها قائدها العام سلطان باشا الأطرش»: ««مذكّرات سلطان باشا الأطرش» تعرّضت لمداخلات غير دقيقة عند تدوينها، الأمر الذي حدا بالمرحوم سلطان الأطرش أن يستعيدها من صاحب مجلة «بيروت المساء». (...). ولذلك رأينا أن نبدّل هذا العنوان بآخر أكثر مطابقة لما ورد في تلك المحاولة وهو «أحداث الثورة السورية الكبرى كما سردها قائدها العام سلطان باشا الأطرش»...
التفّ الفقراء («مرقّعو العبي» كما كان يلقّبهم سلطان الأطرش)، بفطرتهم حول هذه الثورة، والوطنيون من كل مكوّنات الشعبين السوري واللبناني والسياسيون الذين التحقوا بركبها، ودعمها كثيرون، مُتصدّين للاحتلال بإيمان راسخ وبمقاومة صامدة.
لم تتغيّر أساليب الاستعمار، فلا يزال المحتل يطمع بنا وبثرواتنا لتحقيق مصالحه. فعلينا، نحن أيضاً، ألا نغيّر من إيماننا بأن المقاومة مطلوبة وبأن العين تستطيع مقاومة المخرز. لنواجه المشاريع الاستعمارية في فلسطين وفي قدسنا، لبّ الصراع العربي الصهيوني، وفي الجولان، وكل الوطن العربي، بتحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وبرفع شعار الثورة السورية الكبرى، فعلاً، «الدين لله والوطن للجميع»، وبإيقاد جذوتها «كثالث ثورة عالمية، بعد الفرنسية والبلشفية»، (حسب فلاديمير لوتسكي). أخيراً، أشكر كل الأصدقاء الذين ساعدوني في نشر هذا العمل، كما أشكر الأستاذ سركيس أبو زيد الذي أصدره في دار النشر (أبعاد).

* أكاديمية سورية وحفيدة قائد الثورة السورية الكبرى باسم سلطان باشا الأطرش ومؤلّفة كتاب «المذكّرات الحقيقية لِسلطان باشا الأطرش: القائد العام للثورة السورية الكبرى ـ وثائق من أوراقه: من 1910 إلى 1989» الذي نُشر أخيراً عن «دار أبعاد»