الموت، لطالما كان اللغز البشري الأكثر تعقيداً، فقد اختلفت تفسيراته عبر التاريخ، واختلفت معها محاولات الإنسان التاريخية لفهمه أو هزيمته أو حتى قبوله. كلما تطور الإنسان، تتطوّرت علاقته بالموت الواجب قبوله كحقيقة مطلقة. لكن مع كل المحاولات، بقي الموت تراجيديا الإنسان الكبرى، وخصوصاً عندما يصبح عشوائياً غير مصحوب بسبب منطقي قد يخفف الألم عن أهالي الموتى.الموت العشوائي وما قد يخلفه من فوضى في نفوس الناجين، يشكّل الموضوعة الأساسية لفيلم «عَ شفير» (2017 ــ إخراج محمد صبّاح) الذي يُعرض حالياً على منصة «أفلامنا» تحت تيمة «الوحدة». في باكورته الروائية (89 د ــ إنتاج ألماني)، يحكي محمد صبّاح (مواليد بيروت ـ 1990) قصة المصور الفوتوغرافي عمر الذي يموت حبيبه على إثر تفجير في ضاحية بيروت. يحاول عمر إيجاد معنى من خلال عمله على مشروع جديد موضوعته الموت، بمشاركة أشخاص يروون قصصهم معه بهدف تصويرها. يبحث عمر داخل هذه القصص عن ذاته وعن مساحة للتعبير عن ألمه.
يُقسم الفيلم إلى ثلاث قصص تخترق وحدة عمر، نرى من خلالها تطور شخصيته وكشف حقائق عنها تجعلنا نرى الفوضى الحقيقية داخله. تتداخل القصص مع فوضى مشاعر غضب وكره وحب وألم وخوف تقود عمر لإنهاء العلاقة بينه وبين صاحب القصة بطريقة سيئة.
تُروى القصص الثلاث بطريقة متشابهة من حيث الشكل، لكنها يُكمل بعضُها بعضاً من حيث المضمون وسير الحبكة، التي تكشفّت من خلالها شخصية عمر.
تبدأ كل قصة بتعريفنا إلى الشخصية من خلال روي حكايتها مع الموت أمام الكاميرا. يأتي بعدها مشهد جلسة التصوير الذي يجعلنا نرى الحكاية بطريقة مختلفة أكثر صدقاً، وكيف تؤثر حقاً في عمر. بعدها تبدأ حوارية تخلق تواصلاً بين عمر وصاحب القصة تنتهي بطريقة سيئة. يسيطر الغضب على عمر، حين يجعله جرح الراقص الذي فقد صديقه، يذكّره بحبيبه المتوفّى. هنا، يظهر أول ملمح فوضى في شخصية عمر تجاه أزمته الشخصية، الغضب من الفقدان.
بعدها نراه مع «مي» التي فقدت حبيبها السوري وهو يحاول أن يسافر إلى ألمانيا عبر البحر. يسيطر عليه الحب من خلال تماهيه مع قصة الحب التي ترويها له مي، فيتذكر الحب الذي عاشه مع حبيبه المتوفّى. تتوالى الأحداث، ويحاول عمر أن يغتصبها، لينكشف ثاني ملمح فوضى في شخصيته، في محاولته ملء فراغ الفقدان بطريقة عنيفة.
وأخيراً نراه مع شخصية المغترب أنتوني الذي عاد إلى لبنان وأدى الانفجار إلى ترك ندبة كبيرة على ساقه يكتشفها عمر خلال جلسة التصوير التي تمتد إلى صراع عنيف بينهما والتقاط صور أثناء ضرب كل منهما للآخر لتوثيق لحظة الخوف التي يعيشها الشخص من الآخر، فيفرغ عمر مشاعره وغضبه الذي حاول أن يكبته طيلة فترة حِداده.
يطرح الفيلم قضايا عدة بطريقة غير مبتذلة عبر حكاية متماسكة، سواء بطرح شخصية البطل المثلي الجنس الذي يعيش صراعاً بسبب فقدانه شريكه، أو قضية الشاب السوري الذي مات في البحر بحثاً عن النجاة، ومدى ترابط المصيرين السوري واللبناني عبر قصة الحب ما بين الفتاة اللبنانية والشاب السوري. طرح مماثل لهذه القضايا ينطلق من فهم جوهر معاناة الإنسان رغم اختلافات الهوية الوطنية أو الهوية الجنسية.
يتسم الفيلم بجمالية بصرية عالية مرتبطة بأنواع التصوير وحركة الكاميرا وجمالية الكادر، إذ انقسم التصوير إلى ثلاثة أنواع أساسية: التصوير الذي لاحق الحكاية الأساسية وشخصية عمر بشكل أساسي. هنا تبدو الكاميرا متلصّصة ترصد ملامح البؤس والوحدة في وجوه الأشخاص المنتظرين في قاعة الكاستينغ وملامح البؤس والوحدة عند عمر وهو يأكل وحيداً في الاستديو. كما أنها تبدو قلقة تلاحق عمر وهي تهتز هزة بسيطة. من خلال حركة الكاميرا ومكانها، استطاع المخرج أن يشعرنا بحالة عمر المضطربة ورغبته في التلصص على المدينة وتجلياتها في قصص الناس وذواتهم، ورغبته حتى بالتلصص على ذاته، مبتعداً قدر الإمكان عن مواجهتها كما يبتعد بمكان سكنه عن بيروت ورغبته بعدم زيارتها.
أما النوع الثاني، فيرصد قصص الشخصيات بكاميرا وثائقية باهتة تظهر جمالية عالية في تفاصيل وجوه الشخصيات، وهي تتحدث عن حالة الفقدان أو عن قصصها الذاتية. تختلط ملامحها بحالة من الصدق والتمثيل، تعطينا تفاصيل مغرية غير كاملة عن الشخصيات، وتدفعنا إلى الرغبة بالتعرف إليها أكثر.
الفيلم عن كل شخص شهد انفجاراً ونجا، لكنّ الانفجار ترك داخله فوضى لا تُمحى


أما النوع الثالث، فهو لقطات الكاميرا المشوّهة التي تبدو من كاميرا المراقبة. كانت هذه اللقطات مهمة جداً في توضيح علاقة الشخصيات ونوع التواصل الذي يخلقه عمر معها. تشوّه وفوضى ينتجان عن أي محاولة للتواصل يبادر فيها عمر، وعنف يغلب على شخصيته. كما أنها أضفت جمالية عالية على الصورة. لقد كانت بمثابة ومضات تعبّر عن التشوه الذي ترصده العين الخارجية (كاميرا المراقبة) وكيف يبدو المشهد من الخارج، فاختيار المخرج لمكان هذه اللقطات كان موفّقاً، وضعها في لحظة ذروة في علاقة الشخصيات في ما بينها، إذ تشبّعنا بصرياً وتنقلنا هذه اللحظة الخاصة إلى مستوى شعوري أعلى. كانت مشاهد جلسات التصوير الأكثر جمالية في الفيلم، تعبر عن صراع الشخصيات الداخلي وتدخل إلى ذات عمر الخاصة. كانت هذه المشاهد النقطة المحورية التي تنقل علاقة عمر بالآخر من مستوى أولي إلى مستوى أعمق يُظهر فوضى شخصيته.
نرى عمر يراقب من بعيد بيروت التي يتصاعد منها الدخان. نرى المدينة بفوضاها ودمارها وعبثيتها وجحيمها وذوات قاطنيها. كل ما تبقّى لهم هو قصصهم مع الفقدان، خوفهم من الموت ومحاولاتهم البائسة للنجاة.
لعل الفيلم اليوم يكتسب قيمة أكبر من الوقت الذي أُنتج فيه عام (2017)، بسبب ذاكرة مشتركة خلقها انفجار 4 آب لكل إنسان يعيش ضمن هذه المنطقة. لكن قيمته الحقيقية مرتبطة جوهرياً بكل شخص سأل يوماً عن معنى كل هذا الدمار والعبث، كل شخص عاش فقداناً بطريقة عبثية، كل شخص شهد انفجاراً ونجا، لكن الانفجار ترك داخله فوضى قد لا تُمحى.

* «عَ شفير»: لغاية 2 آذار (مارس) على منصة «أفلامنا»