أيقونة ثقافية وسينمائية. فيلم غيّر صناعة السينما بأكملها، بما في ذلك التسويق والترويج، دور العرض وتنسيق العرض الأول، حتى وصل تأثيره إلى كيفية تصرف رجال العصابات، الذين تبنوا رموزاً وطقوساً لم تكن موجودة من قبل. اقتبس فرانسيس فورد كوبولا فيلم «العراب» (1972) ــ الذي طُرح أخيراً في الصالات في مناسبة مرور خمسين عاماً على إنتاجه ـــ عن رواية ماريو بوزو الشهيرة التي أعادت النظر في أسطورة المافيا وسعت إلى فهم سبب تأصّلها في التاريخ وتقاليد الأجداد. بهذه المادة الغنية، بنى كوبولا إحدى المآسي العظيمة للسينما المعاصرة. تنجح الأعمال الفنية الحقيقية في امتحان الزمن. عند عرضها مراراً وتكراراً، تكشف حقائق جديدة حول الشرط البشري وتذهلنا بصفاتها الجمالية. «العراب» هو إحدى تلك الحالات النادرة التي خلقت لتنفيذها عاصفة مثالية وعشوائية بهدف تحقيق مشروع فيلم ووضع جميع القطع في مكانها المناسب.
مارلون براندو في العمل

عرف كوبولا كيفية استخلاص الموضوعات الأصيلة لرواية بوزو. نحت قصة عائلية تعاملت، في الوقت نفسه، مع تناقضات الحلم الأميركي وتجارب ومحن الأجيال الأولى من المهاجرين. نعرف عائلة كورليوني حق المعرفة: الأب فيتو، الابن الأكبر سوني، الضعيف فريدو، كوني الوحيدة، مايكل الغامض الذي انتهى به الأمر بارتداء حياة لا يريدها، ما أدى إلى الانحراف عن قيمه بهدف الدفاع عن نفسه. مارلون براندو، آل باتشينو، روبرت دوفال، جيمس غان وبقية الممثلين وجميع العاملين في الفيلم، خلقوا لحظات حميمية ومأساوية وملحمية، مثل احتفال الزفاف الذي افتتح الفيلم. ما كان ما ذكرناه ممكناً لولا بعض الدقائق في بداية الفيلم (سؤال فيتو عن مايكل، حديث مايكل عن والده وعيناه في الأرض) في مشهد الزفاف الذي أعطى معنى لباقي الفيلم. في النهاية، كل شيء في السينما يتكوّن من سرد قصة بطريقة جيدة. وفي هذه الحالة، الأب والأبن يحبّ أحدهما الآخر جداً.
كفاءة الفيلم السردية مفاجئة. في 175 دقيقة، تخبرنا قصة ذات جوانب متعددة أكثر تعقيداً من تلك التي تشرحها مسلسلات تلفزيونية حالية في أكثر من 50 ساعة. كل إطار مسلّح بدقة لاستغلال القوة التعبيرية العظيمة للسينما، النغمات الموسيقية لنينو روتا، والظلال التي تعمل كمرآة للصراعات العاطفية لعائلة كورليوني. الفضاء السينمائي للفيلم متأثر بقوة بالرسم الكلاسيكي، ذروة المونتاج الذي يخلط احتفالاً دينياً وسلسلة من الاغتيالات. كل شيء ثوري اليوم كما كان قبل خمسة عقود، يكشف عن قوة الصورة في خلق المعاني.

آل باتشينو في مشهد من العمل

سلاسة كورليوني هي محور الفيلم في هذه اللمحة الفجة للعالم الإجرامي ومشتقاته الداخلية والخارجية المتضاربة، التي تشمل أعضاءها والسياق الاجتماعي والسياسي لمناوراتها الإجرامية في دوامة من السلطة والفساد والعنف. إن امتلاك القوة والسيطرة على أعمال المخدرات والقمار، هي المحفّزات لفعل يتوَّج بدوامة من الدماء والموت بنبرة ملحمية، بناءً على عناوين الشرف التي تكتنف قيمة القرابة والولاء والرغبة في السلطة والانتقام. قدّم كوبولا درساً في الإيقاع، في نبضه السردي مع التقلبات والانعطافات المستمرة في حبكة استثنائية تحفّزها شخصيات محددة ببراعة، وبإنتاج فاخر يجسد جواً حزيناً ومتوتراً بفضل التركيز على صورة غولدون ويليس المذهلة.
هناك ازدواجية متمثلة في الأحداث والمونتاج، كما في بداية الفيلم عندما نعيش عالمين بين العرس في الخارج ومكتب الدون في الداخل. طوال الفيلم، نفكر في تطور شخصية مايكل، إحدى أكثر الشخصيات تعقيداً. خلال وجود مايكل في صقلية، نقدر طرق تفكير فيتو بعد مقتل سوني، ونفهم كيف تُفرض بعض القيم على الأخرى. وفي هذه المرحلة، نلاحظ الازدواجية في عقل الدون، وكيف ركّز في هذا الصراع على حماية أسرته قبل الرغبة في الدم. وبفضل السلام الذي فرضه الدون، يعيد الفيلم تجميع القطع وتشكيلها لمواصلة إنشاء المسار الذي ستتبعه العائلة مع والدها الجديد، مايكل.
كل إطار مسلّح بدقة لاستغلال القوة التعبيرية العظيمة للسينما، والظلال التي تعمل كمرآة للصراعات العاطفية

جنباً إلى جنب مع فيتو كمستشار، تم تكليف مايكل بمهمة العائلة الجديدة، سواء البيولوجية أو التجارية. طوال مدة الفيلم لغاية تثبيت مايكل كربّ للأسرة، نصل إلى النهاية وإلى مونتاج مواز آخر، إلى عالمين مختلفين. صور المعمودية والاغتيالات، قيم العائلة الدينية والتجارية التي تخلق تبايناً مع عالم آخر يعيش فيه الرجال فقط. يقسم مايكل على التخلي عن الشيطان وأعماله وفي الوقت نفسه الذي يتم فيه اغتيال أعداء الأسرة. يدخلنا كوبولا في الحدثين ويسلط الضوء مرة أخرى على وجهين لعائلة كورليوني... هذان العالمان يفصل بينهما باب. هو الباب نفسه الذي يدخله الرجال بعد الانتصار العظيم للعائلة، ليقبلوا مايكل كأب جديد. في هذه اللحظة، يغلق الباب أمام أعيننا، نهاية الأحداث. يتركنا كوبولا في الجانب الآخر من الباب. «العرّاب» بصورته الصفراء، فتح الباب لفترة ذهبية جديدة للسينما الأميركية، ولجزءين آخرين من الفيلم.

* The Godfather في الصالات