انطلق «مهرجان البستان» بدورته الحالية في 16 الجاري مع السوبرانو الكندية اللبنانية جويس الخوري. افتتاحٌ قوي تمحوَر حول مقتطفات أوبرالية لفيردي وبوتشيني، قدّمت الخوري خلاله أداءً ممتازاً لهذه الباقة، ونقلت معناها في سياقها داخل الأعمال الآتية منها من خلال التعبير بأبعاده الثلاثة: الوجه، حركة الجسد والنبرة الصوتية. إنها فعلاً نجمة من الطراز الأول، وكانت الأمسية لتكون استثنائية بكل جوانبها لولا المرافقة الموسيقية التي لم تكن على المستوى نفسه لسببَين: الأول أنها كانت مختصرة بالبيانو، الذي ناب، هنا، عن أوركسترا كاملة لم تكن متاحة. الثاني هو أن الأداء الذي تولاه المدير الفنّي للمهرجان جيانلوقا مارتشيانو أتى فاتراً، وسار الأداء على خط ثابت لناحية الدينامية، بدون مراعاة للتقلّبات التي اتبعتها المغنية على هذا الصعيد. في الختام أضافت الخوري من خارج البرنامج مقطعاً غنائياً ثنائياً من أوبرا لملحّن النشيد الوطني، وديع صبرا، شرح تفاصيله لناحية الحبكة الباريتون فادي جانبار الذي أدّى، إلى جانب جويس، دوره الغنائي في هذا المقطع الشرقي النَّفَس الغربي الشكل. ثم ختمت الخوري بتحية لبنانية مؤدّيةً بشكل مختلف، محترَم وجميل، «أعطني الناي وغنّي» لفيروز (كلمات جبران خليل جبران وألحان نجيب حنكش). الليلة كنّا في صدد المحطة المحجوزة للبيانو المنفرِد مع النجمة فوق العادة، الجورجية كاتيا بونياتيشفيلي (1987) الذي تلبّي الدعوة إلى «البستان» للمرة الخامسة (2013، 2015، 2017 و2019). لكنّ ظروفاً خاصة طارئة أجبرت كاتيا على إلغاء موعدها، لكي تبقى بجانب والدها الذي ألمّت به أزمة صحية في الأيام الماضية. لكن «البستان» يتابع مساره ليستقبل غداً غلاس ماركانو (1996)، في أمسية استثنائية تقود خلالها «الأوركسترا الوطنية الفلهارمونية». إن استمرّت قائدة الأوركسترا الفنزويلية الشابة بهذه الوتيرة في الصعود نحو النجومية، سوف يدوّن من سيحضر أمسيتها هذا الحدث في سجلّ ذكرياته الموسيقية. مساهمتها غداً في «كنيسة القديس يوسف» (مونو / الأشرفية) تُعدّ محطة أساسية في الدورة الحالية للمهرجان، وتشبه إلى حدٍّ كبير عشرات الفنانين الذي دُعوا إلى «البستان» مبتدئين مغمورين وأصبحوا لاحقاً نجوماً مكرّسين عالمياً.غلاس ماركانو إحدى ثمرات النظام التربوي الموسيقي El Sistema الذي أطلقه عام 1975 الموسيقي والمُربّي الفنزويلي خوسيه أنطونيو أبريو (1939 — 2018)، الأب الروحي لكل موسيقيي بلده في العقود الأخيرة. هذا الرجل جعل من الشغف الموسيقي والتربية الموسيقية مادةً متاحة لأطفال فنزويلا (من عمر سنتَين) وشبيبتها، مهما أبعدهم الفقر عن هذا المجال. وعلى خطى قائد الأوركسترا غوستافو دوداميل، ابن الـ«سيستيما»، سار كثيرون، من بينهم غلاس ماركانو، السمراء الآتية من عائلة فقيرة، التي انقلبت حياتها رأساً على عقب، بين ليلة وضحاها. فهي تقول إنها كانت تبيع الفواكه والخُضر في فنزويلا، وبعد يومين وجدت نفسها في «فيلهارمونيا باريس» (مقرّ أوركسترا باريس الفلهارمونية الذي تمّ تشييده منذ سنوات قليلة) مشاركةً في الدورة الأولى من مسابقة «لا مايسترا» الخاصة بقيادة الأوركسترا والمحصورة بالمتباريات النساء فقط. مساهمتها في المسابقة لفتت الأنظار وألهبت الحاضرين، لجنةً تحكيميةً وجمهوراً. ماركانو كانت تنظّم وقتها بين دراستها الحقوق ودراستها الموسيقية والعمل مع عائلتها في محال لبيع الخُضر والفواكه. علمت بالمسابقة، فاصطدمت برسم التسجيل: 150 يورو! البلد مخنوق اقتصادياً، لكنّ ماركانو لجأت إلى قريتها لتجمع المبلغ «الكبير» من مدّخرات قرويين فقراء، لم يبخلوا عليها بالقليل المتوفّر، ليضعوها في الطائرة التي أقلّتها إلى باريس… ومنها إلى النجومية العالمية.
كانت تبيع الفواكه والخُضر في فنزويلا، قبل أن تجد نفسها في «فيلهارمونيا باريس»


في أمسيتها، تقود غلاس ماركانو برنامجاً مألوفاً، جميلاً لا يخلو من الصعوبة. نواة الليلة الأوركسترالية تتمثّل بالسمفونية الرابعة للروسي تشايكوفسكي، إحدى أبرز سمفونياته الست وإحدى السمفونيات الأكثر تسجيلاً في الريبرتوار. الأوركسترا الوطنية تعرف هذا العمل الذي قدّمه في السابق بقيادة لبنان بعلبكي، لكن تغيير القائد يعني تغيير قلب الأوركسترا، وبالتالي تقديم نتيجة مختلفة. طبعاً على الراغبين في الحضور أن ينسوا أداء النسر السوفياتي يفغيني مرافينسكي ومركبته الفضائية «أوركسترا لينينغراد الفلهارمونية»، التي وضع معها هذا العمل على قمة يصعب معادلتها، فكيف بتخطّيها. لكنّ الأداء الحيّ لديه دائماً السحر الذي لا يضاهيه أي تسجيل، وهذا ما يغرينا بالدرجة الأولى لملاقاة ماركانو في هذه الأمسية. إلى جانب رابعة تشايكوفسكي، تؤدي القائدة الفنزويلية من عند المؤلف الروسي أيضاً «فالس الزهور» الشهير من باليه «كسّارة البندق»، وافتتاحية أوبرا «ويليَم تلّ» لروسّيني.

* غلاس ماركانو: الثامنة من مساء الغد ـــ «كنيسة القديس يوسف» (مونو/ الأشرفية)