جائحة كورونا، الثورة، انفجار 4 آب... هذه الأزمات وما رافقها من تداعيات وتعقيدات، كانت محور «أربعة أمتار مربّعة للتحدث»، الذي يضم ثلاثة عروض مسرحية قصيرة، جرى انتقاؤها بعدما دعت جمعية «شمس»، عدداً من الكتّاب المسرحيين المقيمين في لبنان، إلى كتابة مسرحية قصيرة بالعربية المحكية. ومن أصل 26، جرى اختيار ثلاثة عروض هي: «نحن وناطرين نوح» (كتابة كريم شبلي وساره عبده)، و«وكأن عايشين» (كتابة: جورج عبود)، و«أنا» (كتابة: نور سعد). ضمن فضاء مسرحي محدد بـأربعة أمتار مربّعة فقط، وديكور فقير، وأدوات صوتية وموسيقية محددة، قُدمت العروض الثلاثة، بعدما رأى القيّمون ضرورة جعل هذه المساحة الإبداعية، ضيّقة ومكثّفة، على مستويات الكتابة الإبداعية، والإخراج والتأليف المسرحي.يبدأ «أربعة أمتار مربّعة للتحدث» مع «نحن وناطرين نوح» من تمثيل سينتيا كرم وفؤاد يمين بدور عايدة وإبراهيم. تتحدث المسرحية، بطريقة فكاهية، عن زوجين كبيرين في السن. يستغل الزوج غياب «المدام»، ليأخذ سيجارة بعيداً عن أنظارها. لكن، كعادتها، تعود من رحلتها اليومية في الكرنتينا، وتكشف أمره، «ليدبّ المشكل» بينهما. يعيش الزوجان روتيناً قاتلاً، بخاصة بعد غياب ابنهما الوحيد نوح. وأثناء جلوسهما في الحمام، تحضر المشاهد النوستالجية، لبيروت والكرنتينا، وأطرافها المزيّنة بأوراق «الخبيزة». يتطرق العمل أيضاً إلى علاقة الأفراد مع البيت، كفضاء آمن للعيش والاستقرار. كل ذلك، يأتي في إطار السؤال عن مصير الإنسان وزواله أمام الواقع الأليم، وتلاشي قواه الجسدية، والعقلية في إطار سرد فكاهي، وكوميدي، مع الإكثار من الكلمات البذيئة، التي عادة ما يتلفّظ بها كبار السن بشكل ظريف. في هذا العرض، يبدو أن النزعة التي يأخذها النص واضحة وبسيطة. لا يشوب الأداء أيّ تعقيدات، بل يتركز على بناء شخصية «كبير السن»، ضمن الكليشيهات المعروفة لبناء الشخصية الدرامية، انحناء الظهر، تغيير الصوت والمشي بصعوبة. يظل النص باهتاً ولا يحمل أي ذروة، إلى أن نصل إلى النهاية. حدث فجائي، يأتي ثقيلاً، وموجعاً، ومحزناً، بعد كل الروتين الذي تحكّم بالعرض. تتطاير أوراق الخبيزة في كل مكان، بفعل الحدث الجلل، يتلاشى مصير الزوجين، بعدما تحكّم بهما الأمل، والصلاة، والدعاء، والمشاحنات، والمداعبات. تعطي فترة الصمت، والمؤثرات الصوتية، لبرهة، للمتلقّي، إعادة التفكر مليّاً، بمصيره في هذا البلد المتأرجح في صراعات أزلية.
يبدو «وكأن عايشين» (إخراج: هاكوب در غوكسيان ـــ تمثيل: يارا زخور ورامي عطالله)، الأكثر متانة في العروض الثلاثة، على مستوى البنية الدرامية والبنية الخارجية أيضاً. نص سلس، ممتع، ومشبع، ومكثّف بالأحداث، التي تدور في قبو أحد المنازل، بعد يومين من انفجار مرفأ بيروت، حيث يختبئ رجل وامرأة مع حقيبة تحتوي على مليونَي دولار أميركي. ولكي يتمتعا بهذا المبلغ، يجب عليهما أن يتخلّيا عن كل شيء ويغادرا البلد نهائياً. تتوسع رقعة الخلاف في الأمتار الأربعة التي يتواجدان فيها، بخاصة مع إصرار المرأة على الذهاب، وإصرار الرجل على البقاء. معالم المدينة اندثرت، ورائحة الجثث باتت تفوح في الأرجاء. «فسوح» ما عاد من معالمها شيء، الموت يطغى على هذه الحقبة الزمنية، الثقيلة، النتنة واللزجة كشهر آب (أغسطس). تنبثق طروحات عن مخاوف الإنسان، وغريزة الأمومة والبقاء والاستمرار. عناوين دسمة، لنص مسرحي شيّق. يتميز أداء يارا ورامي، بالسرعة، والحيوية، والنشاط، والديناميكية. مخارج حروف سليمة، صوتان ملآ المسرح بعيداً عن الانفعالات النمطية، أداء طبيعي، وعاطفي، يربك المتلقي، ويدخله في كثافة المعاني. باختصار، الأداء عاطفي، وإبداعي. «وكأن عايشين» محاولة لتجاوز الإنكسارات والخيبات، بحثاً عن الأمان، خارج نطاق الأمتار الأربعة.
«وكأن عايشين» الأكثر متانة في العروض الثلاثة


تتناول مسرحية «أنا» (تمثيل: آية أبي حيدر وأحمد نبها) قصة حب كالقصص التي نشاهدها في الأفلام، بحسب ما يعرّف ملخص المسرحية. تدخل قصة الحب هذه، في خضم مشاكل عديدة، وتنتهي بطريقة بشعة، وغير متوقّعة. يتم سرد القصة، على لسان بطليها طارق ورانيا، لنكتشف في النهاية أن القسم الأكبر من المسرحية عبارة عن صور تسترجعها رانيا، بعد الانفجار الذي أنهى قصتها بشكل مؤلم. الأمتار الأربعة صارت ملعب قتالها ضد طواحين الهواء، بدون أي جدوى. أسلوب سردي واضح، ذو نزعة خطابية مباشرة، يلقن فيها الممثلان، المتفرجين، بكل ما حدث وما يحدث. الفكرة ناضجة، لكنها تتطلب ربما إعادة الهدم والبناء من جديد، فالنص لا يحتمل أي تأويل أو تحليل. «يا الله أنا معصبة» عبارة تردّدها الممثلة بأسلوب لا يوافق المعايير التمثيلية الإبداعية، فلم تحمل الممثلة آية، الفاجعة كما هو مطلوب، كان الأداء خارجياً، ولا يحمل أي عنفوان داخلي.
«أربعة أمتار مربّعة للتحدث» حملت مواجعنا في أحيان كثيرة، وأعادتنا إلى مصيرنا المحتم، الذي يكون على هيئة موت، أو قلق أو حزن أو فراق أو اغتراب. تحدٍّ كبير، خاضه المنظمون، والكتاب، والمخرجون، والممثلون، لتحضير مسرحياتهم. هكذا أعطت «شمس» المنبثقة عن مسرح «دوار الشمس»، حيوية في المشهد الثقافي العام، ليعيد الفنانون طرح الواقع، بأسلوب فني، يعبّر عن مكنوناتهم الداخلية، وهواجسهم، وخيباتهم.

* «أربعة أمتار مربّعة للتحدث»: س: 20:30 مساء اليوم و25 و26 شباط ـــ مسرح «دوار الشمس» (الطيونة). للاستعلام: 01/381290