هل انتقلت عايدة سلوم (مواليد قب الياس ـ البقاع ـ 1954) من رسم الطبيعة بمادتها المنظورة الحسية وألوانها المصوغة بالتشكيلات الحيّة، الملموسة، التشخيصية إلى اختزال الطبيعة، وتحويلها إلى شبكات تجريدية بمفرداتها المتنوّعة هنا والمتماثلة هناك، واللعب على الفراغ الذي لا نجد له فسحة في أعمالها؟ في معرضها «وشوشات»، الذي تستضيفه «غاليري جانين ربيز» حتى 18 آذار (مارس)، تملأ ريشة سلّوم اللوحة حتى تكاد الفسحات البيضاء تنعدم. تمارس لعبة التجريد، والغموض والإيحاءات المختزلة والمعاني المضمرة والأشكال المتداخلة المصوغة بمفردات تفتح الذاكرة والمخيلة بضربة ريشة واحدة هنا، أو بوسيلة تنقيط هناك.
«خيوط الضوء» (أكريليك على كانفاس ــ 200 × 150 سنتم ـــ 2021)

تتحول اللوحة عند سلوم إلى ذرات متداخلة بحسابات إيقاعية أو بضربات متنوّعة. كأنّ المعرض معرضان، إذ تعتمد الصرامة في تحويل المشهد إلى ذرات مشهدية مرة، ومرات إلى فسحات متداخلة لتكتمل لعبة التجريد أو حتى لتفيض وتتقابل حتى التناقض.
من خلال الإيقاعات المتماثلة هنا والمتداولة هناك التي توحي بنوطات موسيقية تجمع بين لغة السمع الصامتة ولغة الغابة السرية، تحوّل سلوم المشاهد البصرية المكتملة الملامح إلى إيحاءات نغمية (عبر تنقيط اللوحة) كأنها غابة تحولت إلى أوركسترا من الآلات المفردة.... كأنها لغة صوفية أو حلولية تحول الطبيعة إلى أشكال جديدة قد تكون أقوى وأفعل من الرسم الكلاسيكي الذي ينقل الأشياء والوجوه والطبيعة نقلاً مباشراً. إنها لعبة اختزال تجمع بين الحسّي وما وراء الحسّي لتلعب لعبة المخيلة.
لدى دخول قاعة العرض، يشعر المتلقّي بأنه أمام غابة. يراوده إحساس عميق بأنه أمام قطعة موسيقية وغابة ذات مشهديات في الخلفية، أو في مداها لعبة تقشف في التعامل مع مادة أولية. فالغابة أو ما هو وراء الغابة أو المشهد وما وراء المشهد مادة أولية لها، تشكلها بطريقة التجريد، والتجريد ليس اختصار الأشياء، بل اختزالها بلغة فنية تفتح هذه المعطيات إلى ما هو أبعد منها أي إلى سرّها الداخلي.
عند نقطة ما، قد يشعر المتلقّي بنوع من رتابة بصرية تغمر لوحات سلوم أو كأنها تكرار يمكن الاستغناء عنه كي لا يصاب الإيقاع بالتفكّك والترهل. قد يكون التكرار تأكيداً على بنية الرؤية المشهدية والشكلية في تفتيتها، بالتالي، يمكن تقدير حجم المغامرة التي تخوضها سلوم بالتكرار الذي يشبه نبضات القلب وكائنات الغابات والأشجار والوجوه. إنّها ربما متعة التكرار كأنها لازمة موسيقية لا بد منها كي تتحول اللوحة إلى ما يشبه السمفونية.
أما الألوان المتشابهة، فكأنّها تعمّق هذه الرؤية البصرية وتشرّعها على معانٍ مفتوحة، والتجريد في عمقه هو المعنى اللامحدود، ما يدفعنا إلى تأمل اللوحات وقراءتها مرات عدة لاستكشاف مفاتيحها، لكنّ الأخيرة تبقى في دائرة الغموض الشعري الذي لا بد منه في كل عمل لا ينقل الواقع كما هو بل كما يراه الفنان. تحاول سلوم كسر رتابة بعض لوحاتها بأداة غير الفرشاة، كجمع فن الملصق بفن الحبر. تثير لدى الناظر إلى أعمالها استغراباً، كأن في مستطاعها إبدال الشاشة التي تتنوع فيها إيقاعات اللوحة بالمادة التشكيلية نفسها والأسلوب عينه. كأنما الإيقاع قد انقطع وحجبت الشاشة سرّ اللوحات الذي يولّد متعة تأمل إيحاءات، فالأداة أفسدت لعبة التجريد وبسّطتها.
لعبة اختزال تجمع بين الحسّي وما وراء الحسّي لتلعب لعبة المخيلة


لكن لو استعرضنا مجمل أعمال المعرض، لوجدنا أنه غير مؤثر في الانطباع العام. حتى لو انحرفت بضع لوحات إلى أسلبة معينة، فإنها تظل لصيقة بالتجربة المغامرة التي يجذبنا غموضها إلى درجة الاستمتاع ، فالغموض سرّ جمالي كامن خلف الألوان والخطوط.
أما التأثيرات فغير واضحة المعالم، إذ استطاعت سلوم أن تحوّل تلك التأثيرات الخارجية إلى لغة خاصة لا تخرج على لعبة التجريد. التجريد في عمقه وأصوله أمرٌ «روحي»، أو بالأحرى «ديني» كان يمنع تصوير الوجوه والمعاني. هو تقليد راسخ في منطقتنا، لعل عايدة سلوم تواصله هنا، بدءاً من الحروفية العربية التي تعدّ تجسيداً رفيعاً لدى كبار الفنانين العرب، وقد لا نعثر على نظير للحروفية العربية قوةً وإبداعاً إلا في الحروفية اليابانية والصينية أو غيرهما.
ويحسب لعايدة سلوم أنها حاولت الخروج على نمطية معارضها السابقة، إلى ما يمكن أن يحققه التجريب. تخلّت عن الأسلبة، أي اعتماد اللوحة الواحدة المتماثلة. مع ذلك، فإنّه يمكن بسهولة الاهتداء إلى اسمها عند معاينة اللوحات، كما لدى الفنانين الكبار أمثال دالي الذي ما إن نبصر لوحة له، حتى ندرك أنّها له.

* «وشوشات»: لغاية 18 آذار (مارس) ــــ «غاليري جانين ربيز» (الروشة) ـ للاستعلام: 01/868290