الرباط | رحل آخر الساردين الثلاثة المؤثرين في الأدب المغربي المعاصر. غادرنا القاص إدريس الخوري (1939-2022)، تاركاً ذاكرة ثقافية واسعة امتدت أكثر من ستة عقود، وقصصاً عن الصداقة والكتابة والتسكع جمعته بالكاتبين محمد زفزاف (1945-2001) ومحمد شكري (1935-2003)، ومناكفات وسجالات حول الفن والمسرح والكتابة منشورة في كتابته الصحافية هنا وهناك.لا يمكن الاكتفاء بالقول إن الخوري يعدّ رائداً لفن القصة القصيرة في المغرب. سيبدو الأمر كما لو أننا نجمده في مرحلة أو نمط كتابة معيّن أو نحوله إلى كاتب كلاسيكي فقط. ذلك أن صاحب «حزن في الرأس والقلب» (1973) برع في كتابة القصة واللعب بأنماطها الحكائية وأوتارها السردية وطوّر طريقته ولغته من مجموعة إلى أخرى. استكشف عوالم لم تكن مطروقة داخل المجتمع المغربي بواقعية مفرطة. صحيح أنه بدأ شاعراً ينشر في مجلتي «الشاهد» و«الأطلس» في الستينيات، لكنه منذ السبعينيات برز كقاص يكتب نصاً قصصياً مُغايراً ظل ملتزماً به ولم يغادر هذا الجنس الأدبي ليكتب الرواية مثل كثير من كُتّاب جيله.

تشبّع إدريس الخوري بالثقافة الشعبية المغربية وتحولاتها

تأثر الخوري بجبران خليل جبران، تأثراً انعكس على نحو طريف باختياره لاسمه، فاسمه الحقيقي هو إدريس علال الكص (المفارقة أن «الكص» هو أيضاً اسم اختاره شقيقه الأكبر للعائلة متأثراً باسم شخصية ظهرت في أحد الأفلام المصرية القديمة، فقرر تسجيل عائلته كلها في دفتر الأحوال المدنية بهذا اللقب). راقت للشاب الذي تشبع من قراءة صاحب «النبي» كلمة «خوارنة»، وقرر أن يستعمل في كتاباته لقب الخوري. لم يمر الأمر مرور الكرام، فقد هاجمه كتّاب لأنه اختار لقباً مسيحياً وهو مسلم ومنهم عبد المجيد بنجلون، وأوشك أن يتخلى عن خوريته لولا تشجيع أصدقائه وعنادهم ومنهم عبد الجبار السحيمي.
أكد الراحل في أكثر من مقابلة ومقالة، على تأثير الأدب المشرقي على المغربي في مرحلة من القرن العشرين، وتحدث عن تأثره بكتابات نجيب محفوظ، ومحمود تيمور، ومارون عبود، ومي زيادة وميخائيل نعيمة. إلا أن المُدقق في مساره القصصي سينتبه إلى أن كتاباته ظلّت بعيدة من المُختبر المشرقي الذي كان سبّاقاً إلى طرح مفهوم الحداثة داخل الشكل الأدبي.
كان صاحب «ظلال» (1977) و«بدايات» (1980) قنّاصاً مُحترفاً في التقاط تفاصيل صغيرةٍ من محيطه قبل أن يُعيد تخييلها، ما يُفسّر التحامه باكراً بالكتابة القصصية بوصفها فناً شذرياً لا يحفل بالعموميات والحشو. هجس المتن الغزير الذي راكمه الخوري، بمواضيع متنوعة وخطرة منها الدين، والسلطة، والفقر، وناس الهامش. نقرأ في قصته «أيام خديجة البيضاوية» التي تجري أحداثها في حافلة، ذلك اللقاء بين خادمة ثلاثينية وطفل خشن. متقابلين في الحافلة، يحاول الطفل مواساة الخادمة المنكسرة لسبب ما بضمة ورد بلاستيكية، ويدور بينهما حوار قصير بلا معنى. في تلك الحافلة، تلك المساحة الضيقة وضع الخوري كل شخصياته، مرّ على العابرة منها بتفاصيل قليلة، ثم ركز كاميرته السردية على البطلين الفقيرين والمفقرين من كل شيء، المرتبطين بأحلام تافهة. الولد يحلم بورود طبيعية وخديجة تحلم لو أنها تتزوج ويكون لديها ولد. استطاع الخوري تقديم الكثير من الشخصيات في مساحة صغيرة جداً، مستخدماً حيلة الوجود في الحافلة، فاختصر حيوات وتفاصيل في حادثة بين طفل وشابة ووصف الركّاب المحيطين بهما.
عرّى مؤلّف «الأيام والليالي» (1980) الواقع المغربيّ منذ الستينيات ونزع عنه مفهوم القداسة التي تُصبغها مظاهر التديّن عادةً. ثار بطريقته (البعيدة والمختلفة عن طريقة شكري وزفزاف) على التابوهات في حياة الناس، حاسراً الغطاء عن زيف الواقع ليكشف قسوته. كذلك كان في مقالاته وكتاباته التي لم تخل من الاستفزاز للوسط الثقافي والهجوم على ظواهر أو كتابات أو تجارب والسخرية منها بطريقته التهكمية الذكية. يمكن أن نبني تصوراً عن التحولات العميقة التي ألمت بالنص الأدبي المغربي من خلال العودة إلى أرشيف مقالاته، التي تشبه عيناً تلاحظ التغيرات التي حدثت منذ نهاية الثمانينيات، من التحام الأدب بسوسيولوجيا الواقع إلى الإفراط في التجريب، وصولاً إلى تحوّله صورةً مُصغرة ومُرتبكة عن الأدبين الفرنسي والأميركي.
لم يحصل هذا بالمرة في كتابات مؤلف «مدينة التراب» (1988) و«يوسف في بطن أمه» (1994). فالكص مولود في «دار غلف» في الدار البيضاء، المدينة الغول، لعائلة متواضعة تربى فيها على يد شقيقه بعد رحيل والديه وهو ما زال طفلاً. اعتاد على التردد على فنون الحلقة التي كانت منتشرة في المدينة. يقول في إحدى شهاداته عن طفولته: «أما منطقة درب غلف، التي كنت أقطن فيها، فكانت مشهورة بشساعة خلاءاتها. لذلك، في مساء كل يوم، تمتلئ بالفكاهيين الكوميديين الحقيقيين الشعبيين البسيطين والفنانين الشعبيين الموسيقيين (…) لطالما كنت معجباً بالأدب الشعبي، وبالأخص في جانبه الموسيقي، وكل ما يتعلق بالأنواع الموسيقية التي تشتهر بها بعض المناطق من المغرب مثل: العيطة، كناوة، الحوزي، المرساوي. كنت معجباً بكل هذا، لماذا؟ لأنني كنت مدمناً على الحلقة في درب غلف». ويتابع «حين انتقلت إلى الرباط في عام 1968، وهي المدينة المورسكية، حيث سيادة الثقافة العالمة، ثقافة الجامعة... مع هذا النوع من الثقافة، اكتشفت باستغراب كبير كيف يتم النظر إلى الثقافة الشعبية نظرة قدحية».
من هنا نلمس هذا التشبع بالثقافة الشعبية المغربية وتحولاتها الذي لن نخطئه عند قراءة أدب الخوري المليء باللهجة الدارجة، ولعلّه من أول من أدخلها في متن الكتابة الأدبية، فقد قرر من بداياته أنه لن يكتب الأدب الرسمي التقليدي المُدجّج بالنفس البطولي الذي كانت تعرفه منابر الجامعة.
هذا الميل القصصي إلى الكتابة عن المهمش، لم يمنعه من أن يكون منفتحاً في كتاباته الصحافية على تناول ثقافة النخبة أيضاً. كتب في الموسيقى والتشكيل والسينما والنقد الأدبي والظواهر الاجتماعية الجديدة أيضاً. مقالات يمكن قراءة عدد منها في كتاب «فم مزدوج» الذي صدر عن «توبقال» (2009).
في الصحافة أيضاً، اتخذ صاحب «بيت النعاس» (2008) من فنّ البورتريه شكلاً كتابياً يمزج فيه السيرة بالتحليل؛ فعرّف بالكثير من الفنانين والكتّاب الذين كان يرى فيهم شرارة الإبداع وقُدرة مُتفردة على التجديد. في المقابل،كتب بلغة ناقدة لاذعة للسلطة والتقاليد الثقافية الرسمية، التي تروج لشكل من الكتابة، بينما ثمة حاجة لتجارب إبداعية تسائل التابوهات وتعيد التفكير في الواقع. في هذه البورتريهات الأسبوعية التي نُشرت في جريدة «الاتحاد الاشتراكي»، حرّك إدريس مياه الأدب المغربي وقرأ من الداخل نظام الري الفاسد الذي يصوغ مُتخيّلها. رأى أن على الكتابة أن تكون مسكونة بالرجّات التي تطاول الواقع سياسياً واجتماعياً، وأن تنأى عن اللغو حول ما هو جمالي وإنشائي وتنظيري. طبعاً، كان الخوري يفكر ويكتب ويعيش بالطريقة نفسها، خارجاً على المجتمع التقليدي للناس أو للمثقفين على حد سواء. من هنا، تُشكّل بورتريهاته اليوم وثيقة عن الواقع المغربي الثقافي بكل نتوءاته الساخرة وأحلامه المُعطلة؛ الواقع نفسه الذي ظلت تنبثق منه إشراقاته الساخرة للقُراء.
انتهت حياة من كانت الكتابة والقراءة والتجوال في مقاهي وحانات الهامش طريقة عيشه، وإن كان من أواخر ما نشر ويذكره قراؤه رسالة يرثي فيها نفسه، ويعلن عن يأس الشيخوخة من الصداقة والكتابة والجنون، مُستعيداً طيف جسده الطويل في الليل يخترق الأضواء الخافتة بين أزقة الدار البيضاء إلى جانب صديقه زفزاف.


بين شكري وزفزاف
في مذكّراته التي نُشرت على حلقات في جريدة «المساء» عام 2015، كانت للراحل تصريحات جريئة، تناول بعضها كتابة أصدقائه وحياتهم. يتطرق في الحلقة الرابعة من المذكرات إلى كتابة صاحب «الخبز الحافي» يقول: «محمد شكري كان معلماً بسيطاً، وعندما كنا نزوره، زفزاف وأنا، في طنجة لم نكن نتركه يدخل يده في جيبه. أحكي هذا بكل صراحة، طبعاً شكري كان يعرفنا على الأماكن السرية لطنجة، هذا هو المشترك بيننا. أما عن كتاباتنا، فلكل منا نحن الثلاثة طريقته وأسلوبه في الكتابة (…) إذا استثنينا كتابة شكري عن فضاء طنجة السحري ـ بخلاف زفزاف الذي تطرّق إلى مواضيع جريئة نابعة من صميم الدار البيضاء، وهناك قصة مطولة لزفزاف عنوانها «الديدان تنحني»، وهي قصة تجريبيّة مهمة لم تلقَ كبير اهتمام من النقّاد- لا أعرف كيف أعطي كل ذلك الاهتمام لشكري، حيث ترجمت كتاباته إلى لغات عدة، بينما لم ينل زفزاف حظّه من الاهتمام».