ترتبط وظيفة الأنا العليا ارتباطاً وثيقاً بالأب في الأشكال القديمة للمجتمع، لكنها تصبح موزعة بين مؤسسات الإدارة في المجتمع المعاصر. وهذا يعني، إلى حدّ ما، أنها مشكلة كانت موجودة منذ فشل مقتل شخصية الأب. لا أحد ملام، الجميع مذنب لكن لا أحد مذنب. لذا، كما يقول ماركوزه، فأنت تواجه مسؤولين مبتسمين. «ذلك خطؤهم نوعاً ما، ولكن ليس لأن النظام بأكمله نظام من القيود والقمع، حيث هم أنفسهم ضحايا فيه. ليسوا هم من ألُف هذه الأشياء».كيف نخرج من هذا؟ إنّ مفهوم فائض القمع هو المفتاح. في معظم المجتمعات التي يمكن تخيلها، يلزم مستوى معين من القمع حتى يتمكن الناس من إنتاج أي شيء. لكن بعد ذلك، فإن فائض القمع هو القمع الاجتماعي الإضافي فوق ذلك، فوق الضرورة. وأبعد من الضرورة شبه البيولوجية، هناك أيضاً ضغوط ثقافية واجتماعية.
الشيء الرئيسي بالنسبة لي هو الندرة. يجب أن يكون المجتمع الحديث، من نواحٍ عديدة، المجتمع الأكثر قمعية، بالنظر إلى تعميم وظيفة الأب إلى ما هو أبعد من الأب بكثير. ومع ذلك، هناك الجانب الآخر لذلك أيضاً. التكنولوجيا، على وجه الخصوص، أنتجت الظروف الملائمة للقضاء على الندرة والتخلص من الكدح. هذا موجود في الصفحة 76:
«إنّ حجة الندرة، التي بررت القمع المؤسّسي منذ نشأته، تضعف عندما تعزّز معرفة الإنسان وسيطرته على الطبيعة من وسائل تلبية احتياجاته بأقل قدر من الكدح. الإفقار المستمر لمساحات شاسعة من العالم، لم يعد يرجع بشكل رئيسي إلى فقر الموارد البشرية والطبيعية ولكن إلى الطريقة التي يتم بها توزيعها واستخدامها. قد يكون هذا الاختلاف غير ذي صلة بالسياسة والسياسيّين، لكنه ذو أهمية حاسمة لنظرية الحضارة التي تستمد الحاجة إلى القمع من عدم التناسب الطبيعي والدائم بين الرغبات البشرية والبيئة التي يجب إشباعها فيها. إذا كان مثل هذا الشرط الطبيعي، وليس بعض المؤسسات السياسية والاجتماعية، يوفر الأساس المنطقي للقمع، فقد أصبح شرطاً لاعقلانياً. لقد حولت ثقافة الحضارة الصناعية الكائن البشري إلى أداة أكثر حساسية وتمايزاً وقابلية للتبادل، وخلقت ثروة اجتماعية كبيرة بما يكفي لتحويل هذه الأداة إلى غاية في حدّ ذاتها.
تقود الموارد المتاحة إلى تغيير نوعي في الاحتياجات البشرية. ويميل ترشيد ومكننة العمل إلى تقليل كمية الطاقة الغريزية الموجهة إلى الكد (العمل الاستلابي)، وبالتالي تحرير الطاقة لتحقيق الأهداف التي وضعها اللعب الحر للقدرات الفردية. تعمل التكنولوجيا ضد الاستخدام القمعي للطاقة بقدر ما تقلل من الوقت اللازم لإنتاج ضروريات الحياة، وبالتالي توفير الوقت لتنمية الاحتياجات خارج نطاق الضرورة والهدر الضروري.
ولكن كلما اقتربت الإمكانية الحقيقية لتحرير الفرد من القيود التي كانت تُبرر يوماً بالندرة وعدم النضج، زادت الحاجة إلى الحفاظ على هذه القيود وتنظيمها خشية انحلال النظام القائم للهيمنة. على الحضارة أن تدافع عن نفسها ضد شبح عالم يمكن أن يكون حراً». (13)
هنا يظهر ماركوزه التسريعي! ويستمر الأمر في الصفحة 80، حيث يبدو في أقصى أفكاره تسريعية: «ما يُعدّ تراجعاً ليس المكننة والمعيارية بل كبحهما، وليس التنسيق الشامل، بل إخفاؤه تحت حريات وخيارات وفرديات زائفة» (14) يتابع، بعد قائمة نموذجية لمدرسة فرانكفورت عن الملذات البائسة للمجتمع الحديث، الثلاجات والشقق..: «لديهم خيارات لا حصر لها، وأدوات لا حصر لها، كلها من نفس النوع وتبقيهم مشغولين وتصرف انتباههم عن القضية الحقيقية – وهي إدراك أن بإمكانهم العمل بشكل أقل وتحديد احتياجاتهم وإشباعهم». فقط للتلخيص: بالنسبة لي، هذا هو لبّ ما أعدّه نصاً مهماً لهذه المحاضرة. يحدّد ماركوزه التاريخ الطويل للآليات التي تقف وراء «مبدأ الأداء»... ماركوزه يجمع بين الرومانسي والكانطوي من نواح كثيرة. وهو يتبع النسب الكلاسيكي للفلسفة التي تقول: ما هي الحرية؟ الحريات هي أشياء تجري ملاحقتها لتحقيق غاياتها الخاصة، عوضاً عن غايات خارجية، وليس لتحقيق غايات يفرضها علينا الآخرون. عندما يكون هناك ندرة، علينا أولاً وقبل أي شيء أن نتعامل مع هذه الندرة كمشكلة. علينا التعامل مع هذه الندرة. حقاً يجب التعامل معها. لكن عندما تتمكن التكنولوجيا من القيام بالكثير من هذا العمل لنا، فإن هذا العذر (الندرة) لم يعد قائماً. ما لديك إذن هو قدر هائل من فائض القمع الذي يتعلق فقط بالحفاظ على الهيمنة للهيمنة نفسها، ولمجرد الاحتفاظ بوهم استحالة الحرية للبشر؛ أي أن يكون الناس مستقلين وأن يعملوا أقل ويحددوا لأنفسهم احتياجاتهم واكتفاءاتهم.

* مقتطف من المحاضرة الثانية التي ضمّها كتاب «رغبة ما بعد الرأسمالية» (منشورات تكوين | ترجمة نوال العلي)، حيث تناول فيشر جدلية الحضارة عند هربرت ماكوزه التي ناقشها في كتابه «الإيروس والحضارة»