تسببت لحظة 1989، وقت سقوط جدار برلين وانكسار النظام الاشتراكي قي ألمانيا الشرقية، وتالياً في 1991 مع تغييب ما تبقى من رمزية الاتحاد السوفياتي، في صدمة لكل اليساريين. انقلب ضعفاء القلوب والمزيفون منهم على أعقابهم وانتقلوا إلى مرابع الليبرالية، وأصبح بعضهم على يمين عالم الاقتصاد الأميركي ميلتون فريدمان نفسه، فيما عاش آخرون حالة إنكار كابوسية وتمسكاً بالماضي ورموزه كمن تلبّسته أشباح الموتى. الباقون، ممن كانوا يعلمون أن معركتهم أكبر من الرموز وأبعد من الخلاص الفردي، انتهوا كمن يعيش تشرداً وجودياً. لا هم قادرون على التأقلم مع نظام العالم الجديد، ومكانتهم وحدود تأثيرهم تتقلص يومياً مع تعاظم صعود الفاشستيات الجديدة، وتوحش الامبراطورية المنتشية بعد انتصارها في الحرب الباردة، والاقتراب المتسارع لقطار ديستوبيا نهاية الكوكب. لا فرق إن بحرب نووية لا تُبقي ولا تذر، أو بموت بطيء من خلال استنفاد الرأسماليين للموارد والتدمير الممنهج للبيئة والمناخ. هذه المجموعة الغريبة من البشر، التي يحكمها توق غامض إلى عدم الرضوخ لما توافقت الأغلبيات على قبوله، ويسكنها الشك في كل حس مجتمعي سليم، وتتملكها أشواق لمرحلةٍ ما تعقب الرأسمالية من دون أن تدرك كُنه الشكل الذي قد يتخذه هذا العالم عندما يعبر من ضيق تعظيم الربح إلى سعة مركزية الإنسان والحياة... هذه المجموعة، تفرّقت في البلاد، ووهنت رفاقيتها الأممية، وسقطت في كآبة عميقة وتقريع للذات، فكأنها قبيلة من المُتشردين تطاردها العواصف والسلطات البلدية والجوع والعطش والحنين وسلطان النوم في آن. مارك فيشر جاء لهؤلاء كما يأتي نبي مبعوث لقبيلة أنهكتها ظلمات الجاهلية وتاهت في صحراء بلا نجوم. رسالته بداية من كتابه الأول «الواقعية الرأسمالية: هل من بدائل» (2009) كانت نذيراً ــ موجزاً ـــ من الرأسمالية المتأخرة التي ارتدت ثياب النيوليبرالية في السياسة والاقتصاد، وتزينت بعباءة ما بعد الحداثة في الثقافة والفنون. رأسمالية لم تكتفِ بتخصيص الحياة العامة والفضاءات المشتركة فحسب، بل مدّت أطرافها الأخطبوطية لتطوق مخيلاتنا، حتى صار ممكناً تخيل انتفاء العالم، بينما نعجز عن تصوّر نهاية للنظام الرأسمالي. لكن خلف هذه الستارة السوداء السميكة، ثمّة اعتقاد عاطفي حاسم عند الذين بقوا على يساريتهم المتشردة بأن هناك خلاصاً جماعياً ومخرجاً من الحفرة/ المأزق الذي انتهت إليه البشرية. بفائض حساسيته ومرهف إحساسه تجاه الظُلمة، حاول فيشر في كتاباته ومدونته ومحاضراته اللاحقة («أشباح حياتي»/ 2014 و«الغريب والمتروك»/ 2016، والمجموعة العملاقة التي نشرت بعد غيابه المفجع من نصوص مدونة «كي -بانك»/ 2018)، رسم خريطة لهذا المخرج، وإطلاق تخيل جذري جماعي تم ترويضه وحصره. تِركته الفلسفية التي سمّاها «الشيوعية اللاذعة» لم تكن قد اكتملت وقت انتحاره في أوائل 2017. انتحار بدا ـ نسبةً لمشروعه الفكري ــ تخلياً وهروباً، ومخاطرة بتطويبه شهيداً لمعركة خاسرة. ولعلها كانت طريقته المؤلمة الخاصة في توريط قبيلة المتشردين تلك في استكمال الاشتباك النقدي الكثيف مع الواقع لتصوّر مسار الهروب الكبير وراء جدار الرأسمالية العازل إلى خارج «قلعة مصاصي الدماء»: من كان يعبد نبي الثقافة المضادة، بمفهومها الأبعد من تيار الستينات الذي كانت لفيشر مآخذ عليه، فإن النبي قد مات، ومن كان يناضل لأجل تحرير الإنسانية من أغلالها، فإن الثقافة المضادة مقاومة مستمرة لن تموت. حاول تلاميذه ومريدوه التقاط الخيط من حيث تركه فيشر. كتب بعضهم في أزقة ومسارات شقّها أمامهم، سيّما رفاقه الذين اعتصموا في تعاونية نشر الكتب (ريبيرتر) التي كان فيشر قد أسّسها مع آخرين، كمنصّة لنقل رسالة حملة استعادة الخيال إلى الجمهور العريض. لكنّ أحداً منهم ــ أقلّه إلى الآن ــ لم يمتلك ذلك الأفق الكلي المفتوح الذي امتلكه النبي المستقيل من الحياة. مع ذلك، فهم مستمرون في المحاولة، وكلما تاهت بهم الدروب، عادوا إلى فيشر يسائلونه عله يفصح في غيابه عما لم يدركوه منه في الحضور. آخر تلك الاستعانات به جاءت على شكل كتاب عنونه مات كوهون ــ أحد تلامذته ـــ بـ «رغبة ما بعد الرأسمالية: المحاضرات الأخيرة» (2020) الذي بدا أنّه أقرب الوصوف الممكنة لمشروع «الشيوعية اللاذعة»، استناداً إلى محتوى محاضرات المادة التي كان فيشر يدرّسها في كلية «غولد سميث» قبل رحيله. مع أنّه حينها لم يستكمل مع طلابه سوى ثلث المقرر الدراسي، وأن نُصوص تلك المحاضرات جاءت من ملاحظات دونها التلاميذ (إضافة إلى خطة المنهج الدراسي للمادة)، فهي في مجموعها أقرب ما وضعه لتصميم برنامج للفوضى المضادة والصيام عن النيوليبرالية، في الطريق نحو شيء ما يقترب من بوابة التحرير التي تسميها قبيلة المتشردين بـ «الاشتراكية»، ويصر فيشر على نعتها بـ «ما بعد الرأسماليّة».
لا يتعامل فيشر في «المحاضرات الأخيرة» مع إمكانات المساواة التي تعد بها التكنولوجيا كخصم، بل كأداة محمّلة بوعود تحقق نوعاً من الديمقراطية الراديكالية، والوفرة في الإنتاج الذي لا يعتمد على العمل الإنساني، وبالتالي منح البشر أوقاتاً لممارسة الحرية المحض بدون ذلك الرعب الساكن فينا من الغد. يبني فيشر لطلابه منصّة من «براكسيس: جدل النظريّة والممارسة» فكريّ يبدأ من أعمال ماركس ولا ينتهي عندها، مستوعباً فيها تجارب الميّتين ممن حاولوا أخذ الماركسيّة إلى اتجاهات أبعد (هيربرت ماركوزه، جورج لوكاش...)، كما تراث منظّرات المشروع اليساري النسوي في الستينات (نانسي هارتسوغ، إلين ويليس، ..). ومن الجليّ أنّه كان لا يريد تذكير تلاميذه بتلك التجارب الطوباويّة التي انقضت بقدر ما أراد إيقاظ وعيهم النقدي بالطرق العديدة التي يمكن فيها تحديد العدو المتواري عن الأنظار: إمبريالية عرقية، وبطريركية جندرية، وجشع لا يرتوي، وطاقة لا متناهية لسفك الدماء وإلغاء الآخر، وجميع العلل الأخرى وتمثلاتها كاليسار المهادن ومهرّجي التروتسكيّة والهبييين الفوضويين الذين تتعمّد الإمبراطورية تصعيدهم كبديل عن حركة عمّالية حقيقيّة تنتج مثقفيها، لكن ذلك بحث آخر. يستدعي فيشر أيضاً لتلامذته الكتابات المُربكة و«الشريرة» لجان فرانسوا ليوتار المتخمة بالاقتراحات العدمية بأنّ العمّال يستمرئون حالة الاغتراب التي تغرقهم بها الرأسمالية، بحكم تكوينها، وأنهم في الواقع لا يمكنهم العيش ولا حتى تخيّل البقاء خارج منظومة الاستغلال، ويستمتعون بالاقتصاد الليبيدينالي (المتعلق بالرغبات) الذي يخلق ويوظّف - ويحيّد عند الحاجة – أشواق البشر الوجودية، ويحوّلها إلى سلع للمتاجرة وتعظيم الربح. ومن جدل فيشر وتلامذته مع الفكر «الليوتاري»، يتم تفكيك ذلك الغياب المؤسف لكل ما هو «خارج الرأسماليّة»، لا سيّما في حقبة ما بعد الحرب العالميّة الثانية وتعاظم هيمنة الإمبراطوريّة الأميركية بعد تلاشي الإمبراطوريات القديمة وخواء ما تبقى من بعض التجارب الاشتراكيّة والتغييب القسري لبعضها الآخر، وبالتالي تقلّص هامش «المقاومة» ولعنة التشرّد التي أصابت المقاومين.
لا يقع فيشر في فخ ثنائيّات التناقض (أبيض/ أسود) برفض الرأسمالية وإلغاء منجزاتها المادية، فيستفزّ تلامذته للبحث في تلك الأشياء التي يمكن، ونريد في الوقت عينه، الاحتفاظ بها لمرحلة ما بعد الرأسمالية. لكن العدد القليل من المحاضرات (الأخيرة) التي ألقاها فيشر يحرمنا من استشفاف إلى أين كانت تلك الاستفزازات ستنتهي.
انتحاره فعل تمسّك بالحياة وحرية فردية مطلقة، وتمرّد دائم في وجه كل الإمبراطوريات


بفضل خطّة المنهج الدراسي للمادة التي ضمّها كوهون لنصوص المحاضرات، فإن لدينا بعض القرائن حول المسار التقريبي الذي وضعه فيشر لرحلة مقرر استنطاق شكل العالم ورغبات البشر في «ما بعد الرأسماليّة» حيث ثلاثة مسارات متوازية: أولها الكشف عن طرق لاقتلاع الأفكار السياسية للثقافة المضادة في الستينيات بشكل شامل (مع التركيز على تجربة المخابرات الأميركية للإطاحة بحكومة سلفادور الليندي الديمقراطية الاشتراكية في تشيلي عام 1973)، وثانيها تنفيذ تحليل معمّق (من خلال أعمال ستيوارت هول وجودي دين وغيرهما) لتحوّلات العمل نفسه بعد ذبول الكلاسيكية الفورديّة (نسبة إلى منهجيّة شركة «فورد» الأميركية في التصنيع الكثيف عبر خطوط الانتاج) وظهور اقتصاد المعلومات، وأخيراً تحليق موسع في فضاءات سياسة ما بعد العمل، ونزعات التحرر من عبوديّة المصنع كما استكشفت في سبعينات القرن الماضي. من خلال المادة الجدليّة المتطلبة التي كان يدرّسها، يبدو أنّ فيشر كان يرمي إلى بلوغ استنتاجات بشأن إمكانات كامنة لـ «تثوير» بعض معطيات الرأسماليّة المكرّسة بالكامل سلعاً من أجل الربح، من استكشاف الفضاء إلى مطارحات غرف النوم، وإعادة إطلاقها كامتدادات (ديمقراطية) لأحلامنا بالتحرر من الاستغلال، وبدلاً من النكوص عن التقدّم المادي المتحقق إعادة جدولته وتوجيهه لتذويب الانفصامات بين العمل والحياة، وبين الواقع والفن، وبين حقارة التراب ورفعة الخيال.
لم يرد فيشر يوماً التحوّل إلى صنم يُعبد، وكان يمقت تلك القداسة التي يتعامل بها كثيرون مع نصوص الميتين، بمن فيهم مفكرو اليسار قبل غيرهم، كأنها منزّلة ومنزّهة وسرمديّة. ولذلك فنحن المتشردين في صحراء الواقع الرأسمالي، يرضينا أنّ نبي ثقافتنا المضادة ومُلهمنا للمقاومة لم يسمح لنفسه بترك نص نهائيّ متماسك يتضمن أجوبة جاهزة. لقد اكتفى بأن طرح علينا الأسئلة، وقدّم لنا الأمثلة عن وعود العناد، وتركنا لنقوم بما تفرضه علينا إنسانيتنا: أن نطلق لخيالنا العنان وننهض لنقاتل من أجل الحلم الذي حلّق إليه ذلك الخيال، ولا نقبل حالة التلطي في برزخ رمادي قاتم بين الوجود والعدم. أما هو شخصياً، فقد اختار ــ عندما عزّ الوجود الحرّ الكريم ــ العدم كفعل تمسّك بالحياة وحرية فردية مطلقة، وتمرّد دائم في وجه كل الإمبراطوريات الفاسدة، ورفض مطلق للعيش حيث تستلقي الزومبيّات البائسة مكتفية باستهلاك ما صنع لها من رغبات.