يُمكن اختصار أزمة الدراما العربية بكلمة واحدة: النص. ليس الأمر بهذه السهولة عند مقاربة القيود والمحاذير المفروضة على صنّاع الدراما في العالم العربي. يأتي «عالحد» (منصة «شاهد» السعودية الرقمية) واحداً من المسلسلات التي تحاول أن تقول شيئاً. لكن بسبب ضعف النص، يأتي ذلك ممجوجاً، منهكاً، وغير واضح المعالم. لا شك في أنّ للمسلسل نقاط قوةٍ تُحسب كالممثّلين المشاركين في العمل، لكنّه لم يُحسن استخدام قامة مثل صباح الجزائري، فحشرها حشراً في دورٍ صغيرٍ لا فكاك منه أبداً. في الوقت عينه، قارب المسلسل قضايا متعدّدة إنّما بسطحية مثل الخيانة وأطفال الشوارع وعمالة الأطفال، فضلاً عن تجارة المخدّرات والقتل بوحشية بالغة... كلّها خلطها في «كوكتيل» سريع من 12 حلقة! ألم يكن منطقياً أن تكون القضايا أقل، ويحصل الممثّلون كما القصّة على مساحةٍ أوسع للإبداع أو على الأقل الراحة في التمثيل؟تدور أحداث المسلسل حول سيدة (سلافة معمار) تعمل في صيدلية، تركت سوريا بعد الأزمة ولديها ابنة واحدة (شهد الزلق) لم تتخطّ العشر سنوات، وتعيش مع خالتها (صباح الجزائري) وابنتها (مارلين نعمان) وابنها في منزلٍ واحد في حي يبدو شعبياً. يبدأ العمل كما لو أنّه مسلسل رعبٍ ذو طابعٍ بوليسي. مع المشاهد الأولى في الحلقة، نشهد محاولة اعتداء جنسي في الشارع من قبل مجرمٍ ملثّم. بطبيعة الأحوال، تتعقّد الأمور لاحقاً في المسلسل حين نتعرّف أكثر على طبيعة الجو العام: صاحب الصيدلية (إدمون حدّاد) يبيع المخدّرات، فيما تعمل فتاة شارع صغيرة تدعى تلجة (دوجانا عيسى) في بيع العلكة. سرعان ما «يشغّلها» صاحب الصيدلية معه في تجارة المخدّرات. هنا أحبّت الكاتبة أن تعقّد الأمور، كأنها غير معقّدة حتى اللحظة، فجعلت بطلة العمل (سلافة معمار) في علاقة سرية مع (روردريغ سليمان) زوج صديقتها الأعز (مروى خليل). تتعقّد الأمور أكثر حين تقتل البطلة المجرم الذي يعتدي على الفتيات، ليأخذ المسلسل طابعاً آخر غير متوقّع.
كتبت المسلسل السورية لبنى حدّاد التي عرفها الجمهور من مسلسلات مثل «أهل الغرام» (بجزءيه الأوّل 2006 و2008) و«سيرة الحب» (2007). ويبدو أنَّ الإطالة في بنية النص، أنهكتها ككاتبة، وخَلط النص الأمور إلى حدٍ كبير. مثلاً تتحدّث البطلة ضمن نظام الـin المعروف (الحوار الداخلي) كما لو أنّها «قديسة» وهذا شبيه بما تفعله بطلات حكايا «أهل الغرام» و«سيرة الحب». لكن الكاتبة نسيت أنَّ المشاهد هنا أمام بطلة مختلفة. بطلة تستطيع القتل بسهولة بالغة، وتقوم به وتمارسه. هذا بخصوص الحوار الداخلي أمام الكاميرا، الذي سرعان ما يختفي بشكل كلي في الحلقات. في الإطار عينه، لا بناء درامياً للشخصيات نهائياً: الشخصية الرئيسية التي تؤدّيها سلافة معمار، تبدأ كما لو أنّها شخصٌ ضعيفٌ خائف، سرعان ما تبدأ بالتقوّي وصولاً إلى مرحلة القتل. لكن لا أحد يمكنه معرفة السبب الذي جعلها تصبح قويةً إلى هذا الحد. في الحرفة: يحتاج البطل، كي يبلغ مستوى «الوحشية/ القتل»، إلى «مسببات، فالدفاع عن النفس ليس سبباً للتوحّش كما حصل مع البطلة، ولو حصل فعل القتل. ما يجعل العمل مقبولاً، هو ما اتكأت عليه الكاتبة والعمل ككل: قوّة أداء سلافة معمار، لكن هذا أيضاً في لحظاتٍ ما، كان نقطة ضعفٍ كبيرة: ففي مشهدٍ نقاش البطلة مع ضابط الشرطة (علي منيمنة)، بدت سلافة – بحكم أدائها المتمكّن- أقوى بكثير من المحقّق، مع أنه منطقياً، بحكم أنّ لديها ما تخفيه، ولا سوابق إجرامية لها (أي ليست محترفة إجرام)، يجب أن تكون خائفة. صباح الجزائري بدورها عانت كثيراً من النص، إذ حشرتها الكاتبة في غرف المنزل، ولم تسمح لها لا بالخروج، ولا بالأداء المرتفع الذي تمتاز به، فلم نشهد أي أداء خارق من ممثلة من العيار الثقيل. الأمر نفسه ينسحب على برناديت حديب، التي حشرتها الكاتبة بمشاهدها القليلة وغيّبت أي بناء لشخصيتها.
أدائياً، لا شك في أنّ أقوى نقاط المسلسل هو أداء سلافة معمار المختلف عن معتادها: إنّها ليست الرقيقة المسكينة، المعذّبة، ذو الوجه العذب. بل نحن أمام كائن مفترس بكل ما للكلمة من معنى. ربما ساعدتها المخرجة ليال راجحة كثيراً في تصويرها ضمن ما يسمى lion walk التي تظهر البطل كما لو أنه قادمٌ ليفترس. وهذا النوع من التصوير استخدمته راجحة كثيراً، إذ شهدناه في معظم مشاهد دخول سلافة إلى أي مشهد. في الإطار عينه، لم تمنح الممثلة السورية فرصةً لأي ممثلٍ للظهور إلى جوارها. مثلاً في أي مشهدٍ جمعها مع أيٍ كان، كانت تؤدي بأكثر من عشرة أضعاف مما يؤديه، ما أظهر ضعف أداء شريكها أو شريكتها في المشهد. مثلاً في معظم لقاءاتها بعشيقها (رودريغ سليمان)، لم تبد مسيطرة فحسب، بل بدت قوة أدائها التمثيلي كبيرة، حتى إنّ رودريغ لم يستطع مجاراتها مراراً، ممّا كان يجبره إما على الصمت أو التشتّت في التمثيل. الأمر نفسه ينسحب على أدائها أمام علي منيمنة _وإن بدا أقل توتراً _ أو مروى خليل (ربما الوحيدة التي سمحت لها بالتمثيل بجوارها هي دوجانا عيسى، ولكن ليس في كل المشاهد).
يبدأ العمل كما لو أنّه مسلسل رعبٍ ذو طابعٍ بوليسي

فهل كانت الممثلة السورية تتقصّد ذلك؟ هل كان ذلك استعراض عضلات تمثيلية؟ في الوقت نفسه وللمفارقة، أدت معمار بعض المشاهد كما لو أنّها تسمّع «الاستظهار» بلا أي روح. صباح الجزائري، كعادتها تستطيع الأداء وبمهارة مرتفعة، لكن النص والكاتبة _وربما المخرجة_ منعاها من إظهار مواهبها. بقية المشاركين في العمل - ولا قسوة في ذلك - كان ممكناً استبدالهم بممثّلين آخرين، وما كان ذلك ليؤثّر البتة. ففي أي مشهد كانت تظهر فيه معمار، كان الضوء يبقى عندها، فيختفي الآخرون. بقي أن نُشير إلى إدمون حداد الذي قام بأعلى مستوى من التمثيل المفتعل الذي لم نشاهد مثله منذ أعوام.
إخراجياً، تأتي ليال راجحة، من عالم الكليبات الغنائية، الأسهل والأبسط والأسرع نسبياً من صناعة الدراما، حيث الفنان يغنّي، وراقصات يحركهن أجسادهن وشعرهن في الخلفية. حاولت ليال تقديم صنعة درامية في بعض الأحيان. فقد صنعت بعض المشاهد الملفتة، خصوصاً عند تقديم بطلتها كمفترسة وحتى في تصوير «صراعها» النفسي الداخلي، وهذه نقاط تحسب لها. في الوقت نفسه، أفلتت مشاهد ولقطات كثيرة من يديها من دون منطقية، فضلاً عن أنَّ النص لم يسعفها كما تريد. يُضاف إلى ذلك أنّها لم تستطع السيطرة _كصانعة للعمل_ على سلافة معمار في كثيرٍ من اللقطات.
إذا كنت من عشاق المسلسلات العربية السريعة ذات الممثلة الواحدة التي فعلياً تمتلك أداء قوياً، ستستمتع حتماً بالعمل. بخلاف ذلك، كان «عالحد» ككل يستحق «مراجعة» وإعادة قراءة، كما «شدشدة» مفاصل وتفاصيل.

* «عالحد» على «شاهد»