في معرضه الأول «لوين واصل» الذي تحتضنه «غاليري آرت لاب»، يرسم الفنان اللبناني الشاب أحمد غدار (1994) مشاهد في الفان، مستخدماً «اسكتشات» رسمها أثناء ذهابه إلى الجامعة من صور (جنوب لبنان) إلى منطقة الحدث (محافظة جبل لبنان). كانت هذه الرسومات جزءاً من مشروع تخرّجه، فطوّرها لاحقاً لتصبح لوحات كبيرة عن تلك الطريق التي ربما نسمّيها الحياة.هكذا تبدو اللّوحات أمامنا كأنها مشاهد لرحلة داخلية، لسؤال يومي يطرحه صاحب الفان: لوين واصل؟ فيأتي المعرض كأنه ذلك الجواب الغريب الذي يعرف كيف يجعله الفنان مشاهد بصرية وتفاصيل قلّما ننتبه إليها ونحن في ذلك المكان المتحرّك. هكذا، يستحيل هذا المكان أكثر من حافلة أو فان، بل ربما وطن أو حياة لا نعرف أين سنصل فيها، أو متى. لكننا ننتبه لما بداخل الرحلة من مشاهد ساحرة أو غريبة، لنعلم أننا هنا بحاجة إلى تلك المرآة الأمامية التي تخبرنا عن هذه التفاصيل.

«بطولات» (مواد مختلف على كانفاس ــ 80 × 100 سنتم ــ 2020)


«لوين واصل» (مواد مختلفة على كانفاس ـــ 180 × 195 سنتم ــ 2020)

وبالفعل، فقد كانت المرآة عالماً آخر في لوحات غدار، الذي يتذكّر أنه في طفولته كان يذهب في الفان مع أبيه الراحل، ينظر في تلك المرآة ليرى أباه. لذلك، اختار الفنان أن لا يرسم الفان بشكل كامل، بل أن يرسم المرآة وهي تعكس شخصية السائق وعالمه الخاص. كانت تلك المرآة عيناً أخرى على عوالم تحدث في الفان وفي مخيّلة الفنان وذاكرته كأنها عين على الذاكرة يحاول غدار أن يجعلها تتحدث عمّا كان يدور في مخيلته وفي الخارج أيضاً.
يمزج الفنان الألوان الزيتية والأكريليك لتبدو لوحاته (متنوّعة الوسائط) قريبة من لوحات الطبيعة الصامتة في تصويرها للأشياء. لكن بروز وجه السائق وأحياناً عينه فقط من خلال المرآة، يشعرنا أنّ هناك أشخاصاً داخل المشهد. تبتعد اللوحات عن واقعيتها لتقترب من انطباعيّة غامضة، لا تريد أن تسرد كل شيء. تترك لنا حرية الدخول إلى مشاهد أخرى غير المشهد الذي يرسمه الفنان. تحضر في إحدى اللوحات بعض الخطوط وفي بعضها الآخر سؤال «لوين واصل»، لكن مشهد المرآة يحضر دائماً.
نتخيل المرآة هنا، لوحة داخل اللوحة، فتبدو كأنها معلقة في حالة من الانتقال أو المشي. إنها هنا لتذكّرنا أننا داخل الفان. أليست هي ذاكرة؟ ربما لأنها تعكس الأشخاص، لكن تحضر معهم كل الأشياء الحميمة المتعلقة بهم. الأرزة المتدلية، والقرآن وأحياناً الدبدوب الصغير. يشعرنا الفنان أننا نجلس معه في الخلف، لنرى عين السائق وأشياءه في الأمام، كأن الحياة نظرة من الخلفية على كل شيء، ربما نظرة من الطفولة على العالم في ما بعد، كما يفعل الفنان في معرضه حين ينظر إلى العالم كما كان يراه وهو طفل يجلس مع أبيه في الفان وينظر.
ولكن لم يكن العالم في الخارج غائباً، لأن تلك العزلة كانت محاطة بأحداث في الخارج. ففي لوحة ما تحضر صورة محمد الدرة، التي يقول الفنان إنّه رآها في أحد الفانات. وعن سبب عدم رسمه مشاهد في الخارج، يجيبنا بأنّه كان مشغولاً بالعالم الداخلي وما يحدث فيه. وفي كل مرة يتغير المكان الذي يجلس فيه كأنه يريد كل مرة أن يختبر معنى أن يكون في رحلة يتغير فيها مكانه، والفان والسائق. لكن اللوحات تخبرنا أن هذا المكان انعكاس للخارج وربما يكون مرآة لما يحدث في الخارج.
يمزج الفنان الألوان الزيتية والأكريليك لتبدو لوحاته قريبة من لوحات الطبيعة الصامتة في تصويرها للأشياء


في اللوحة الأولى، تتجمّع كل تلك المرايا، كأنها محاولة لجمع الذكريات على الطريق، على خلفية زرقاء وسوداء. ثم يبدأ الفنان باستحضار كل مرآة في لوحة، كأنها رغبة بأن تكون كل طريق أيضاً حالة خاصة لا تشبه الطريق الأخرى. يذكرنا ذلك بما قاله الشاعر الكولومبي خوان مانويل روكا في كتابه «صانع المرايا»: «المرايا لا تشي بسكانها القدامى». هنا توثق مرايا أحمد غدار سكانها كأنها صورة فوتوغرافية تشعرنا أنهم سيذهبون، فيما هم باقون داخلها. وهنا نسأل: هل بإمكان الفن أن يأخذ تلك الصور التي امّحت في المرآة؟
كانت محاولة الفنان للإجابة عن هذا السؤال بأكثر من طريقة فنية، وأسلوبه في ذلك جعلنا نعود إلى الاسكتشات لنلاحظ كيف أضافت الألوان الباهتة والصور والكلمات عالماً خاصاً للوحة، لتصبح لوحات رسمت داخل الفان وخارجه... لوحات عن الطريق وأسئلتها وأسرارها وما تحملها من طاقة على الحلم والمشي..

* «لوين واصل»: حتى 10 شباط (فبراير) ــ «غاليري آرت لاب» (الجميزة ـ بيروت) ــ للاستعلام: 03/244577