يذهب نصوح زغلولة (1958) في معرضه «صمت في دمشق» الذي تستضيفه هذه الأيام غاليري Art on 56th في بيروت، إلى الصورة المضمرة للمدينة القديمة، بعيداً من اللقطة الفولكلورية التي تلهث وراءها العدسات الكسولة. لدى هذا المصوّر الضوئي السوري رؤيته الخاصة لاكتشاف سحر المدينة في صمتها التام، لحظة الحوار بين الظل والنور، وإذا بنا حيال منظر آخر لطالما أهملناه خلال استغراقنا بما يجري على سطح الصورة، دمشق ليست سوق الحميدية والمآذن وباعة العرقسوس.
هنا مشهدية أخرى تتوغل في العمق في سرديات بصرية تنطوي على فكرة جوهرية هي التحريض على اكتشاف الجمال النائم في الأزقة والجدران والشرفات، بقصد تأصيل هوية غرافيكية للمدينة من موقع مضاد للعادي والسهل والعابر.
طوال ستّ سنوات (2006ــ 2012)، سعى نصوح زغلولة إلى توثيق الصمت في المدينة العتيقة، مراقباً تبدّلات النور على المشهد نفسه، ما بين الصباح والمساء، وكأنّ المدينة تخلع عباءتها عن كنوزها المدفونة تحت السطح مباشرة. لكن هذا التجوال لاصطياد غواية الظل والنور، لم يكن مقصداً بحد ذاته، إذ كان يُخضع اللقطة لعمليات تقنية شاقة، في مختبره، إلى أن يصل إلى مبتغاه من الكادر. لا يكفي أن تتجوّل بعدستك ساعات في دمشق القديمة كي تهتك أسرارها. بالنسبة إلى هذا المصوّر المولود في حي الشاغور، فإن المسألة تتجاوز البعد النوستاليجي الصرف، إلى صوفية مأخوذة بالسحر الجوّاني للمدينة، والطواف حولها وفيها، متماهياً بحجارتها وفسحاتها النورانية، إلى حدود الوله. يرفض نصوح زغلولة وصف أعماله الفوتوغرافية بالتجريد، فهو يراها واقعية تماماً، لأنه لم يضف إليها شيئاً من خارجها. يقول لـ«الأخبار»: «خلال عملي على هذه المجموعة، كنت أتوغّل وحيداً، مع الشام، من دون تشويش، بقصد فحص تبدلّات الضوء، بين فصلٍ وآخر، وتشكّل بقع الضوء التي ترمي بظلالها على سطح العدسة». في استعادته لأرشيف الشام بعدسته، يبتعد أولاً عمّا يضع اللقطة في خانة الشعبوية، حتى لو كانت الصورة ملتقطة بعدسة الهاتف الخليوي، ذاهباً بكامل شغفه إلى روح الصورة، وتالياً، روح المدينة: «لم يدخل أحد إلى روح دمشق كما فعلت، وهذا ليس غروراً» يقول.
في معرضه، سنتوقّف مليّاً، أمام تجليات دمشق القديمة بالأبيض والأسود، في أقصى حالات الكثافة والاختزال والسحر، نقتفي أثر الضوء في سطوعه واستطالاته وسط الكتل السوداء، راسماً أشكاله التجريدية في مقاربات بصرية أخاذة، كأننا إزاء مشهد آخر غير ذلك المشهد الذي اعتدناه بسبب تراكم الإنشاء السياحي للمدينة بصرياً. ههنا يقشّر نصوح زغلولة السطوح ليضيء الطبقات المدفونة تحتها، في نحت بصري صارم، يتخفّف من الزخرفة التي تخاطب الآني والزائل والشعبوي في تلقي النصّ البصري لدمشق. لن نجد في أعماله هذه (30 عملاً)، أي أثر للبشر. هذا موعد سرّي مع الكتلة والفراغ في حوارهما العميق والآسر والأبدي. ينفي نصوح زغلولة أي علاقة بين عنوان معرضه، وما تشهده دمشق اليوم من دمار وخراب وهزائم، فهو كما يقول، أنجز هذه الأعمال «قبل الطوفان». وفي حال حمل عنوان المعرض أي بعدٍ تحريضي، فهو التحريض على اكتشاف الجمال المخبوء وحسب، من دون إهمال سينوغرافيا الحنان والقسوة في ثنايا اللقطة. تفصح هذه الصور في قراءة موازية عن بحث جمالي محموم، ومخزون وجداني، في تأصيل هوية المدينة القديمة قبل زوالها أو احتضارها تحت وطأة حداثة عرجاء مثقلة بنسيج فولكلوري هش وتوابل لونية مستعارة، وفقاً لمتطلبات «الكارت بوستال» في بنية راسخة تلفظ الشوائب البصرية جانباً، لتظهير المشهد الأصلي في بعديه التاريخي والحياتي، بعيداً من الانشغال بما هو ريبورتاجي صرف.
علينا أن نتذكّر هنا، بأن مفردة الصمت ليست جديدة في اشتغالات هذا المصوّر الاستثنائي. سبق وأطلق اسم «احتفاء بالصمت» على معرضه الدمشقي الأول (2007)، مستعيراً العبارة من صديقه يوسف عبدلكي في وصف أعماله. لعله اكتفى بأرشفة الصخب خلال إقامته الطويلة في باريس، إذ وثّق في الفترة بين 1983 و2008 كل التظاهرات والاحتجاجات والإضرابات التي شهدتها عاصمة الأنوار، بما يقارب 80 ألف صورة، إضافة إلى توثيق أحوال القاع في هذه المدينة التي تضج بالمتناقضات، خلال دراسته في «المدرسة الوطنية العليا للفنون الزخرفية» في باريس. عدا تصويره المدن، اهتم نصوح زغلولة في مرحلته الباريسية بالبورتريه، وتصوير الموديل العاري بزاوية نظر جديدة، محاولاً تخليص الجسد من أقنعته وشهواته.



«صمت في دمشق»: حتى 21 حزيران (يونيو) ــ غاليري Art on 56th، الجميزة ـ للاستعلام: 01/570331