ثم إنّهم قتلوك يا محمّد. كنتَ «يوسُفَنا» هذه المرّة، غير أن الدّم لم يكن كذباً، ولا كان الذئب بريئاً من دمك. وكيف يكون الدم كذباً وثمة من وثّق المشهد بصورٍ من مختلف الزوايا، لتتحول إلى خبرٍ وصورة، يُتاجرُ كلٌّ منّا بهما كما يحلو له في البازار السوري المفتوح. قالوا إنّ خمس طعنات انتهكت جسدك الغض. خمس طعنات بعدد زهور عمرك الخمس، فأي مفارقة لعينة!. حسناً يا مُحمّد، نَحسبُك تبتسم الآن، وتعي ألّا شيءَ يضمن تحوّل قضيّتك إلى قضيّة رأي عام، طالما أنّك لم تعُد تشغلُ حيّزاً من الجغرافيا التي ما برحت تضيقُ بك وبأقرانك. أما وقد وضعَك قاتلُك «القاصر» داخل علبة في مكبّ نفايات، فقد باتت الجغرافيا في مأمنٍ منك. هل لاحظتَ أنها كانت علبة «شيبس» كُتبت عليها أسماءُ نكهاتٍ خمس؟!. هل انتبهت إلى هذه المفارقة اللعينة أيضاً؟ أنت تعي ذلك حتماً، فكم يجعل الموت أطفاله ناضجين!. أنتَ تعلمُ حتماً أنّ كثيرين قد تشاركوا في قتلك، كما تعلمُ أنّنا قد نتشاركُ جميعاً في قتلكَ مرةً ثانية، وثالثة... وخامسةً ربما.
قُل لي يا صغيري بالله عليك، هل تشغل بالك الآن كلُّ هذه الترّهات؟ أم أنّك منصرف إلى إحصاء وجوه الشبه بينك وبين بلادك؟ فهي كثيرة كما تعلم. لقد تعرّضَتْ للاغتصاب، كما تعرّضت أنت. وتشاركنا جميعاً في تسديد الطعنات إليها، كما فعلنا في شأن طفولتك العذبة. كان أيضاً ثمّة سكاكين «شقيقة» قد طاولَتْها، كما فعلت سكينٌ «شقيقةٌ» معك. هل قلتَ إنّ الطعنات قد سُدّدت إليك في الخاصرة؟!. يا للمصادفة المدهشة الموجعة! كم تشبه سوريا يا صغيري! حتى أنّ موتَك ليس هدفاً سهل المنال، لا شكّ في أن قاتلَك أدركَ ذلكَ جيداً، فلم يكتف بطعنة واحدة، بل أتبعها بطعنات، إلى أن شُبّه لهُ أنّك متّ، فيما أنت تبتسم الآن، وتمدّ لسانَك لنا جميعاً، وللموت. فلكم تُشبه سوريا يا صغيري. أخبرني يا مُحمّد، كيفَ حال أصدقائك جميعاً؟. كيفَ حالُ أقرانِك من ضحايا الحرب؟ سلّم عليهم زهرةً زهرةً، بلا استثناء. قبّلهم جميعاً، ضحايا القنص والقصف والهاون والبراميل ومدافع جهنّم. ضحايا الجوع والمرض و«التكبيرات» الآثمة. ضحايا قذارة هذا العالم المجنون، ضحايانا. سلّم عليهم، ولا تسلهم أن يغفروا لنا، لأننا نعلمُ ما نفعل. اطلب منهم فقط أن يعذرونا، لأننا نحتفي بك دوناً عنهم هذه الأيام. فأنتَ «يوسُفنا» الأحدَث، ونحن لن نُخيَب ظنّك بنّا. سنحوّلُ جسدك الغضّ إلى منبر لتفاهاتنا وترّهاتنا، وسنرقصُ فوقَ الدم الطاهر كما تعوّدنا. حتّى إذا انبرى ذئبٌ جديد، وسدّد إلى صديق لك طعنة أخيرةً تُتوجُ طعناتٍ كثيرة نتشاركُ فيها جميعاً في الخفاء، انصرفنا إلى يوسفنا الأحدث. وتحوّلت أنت من خبر ساخن، إلى ضحيّة مؤرشفة، مُنحَ قاتلُها حُكماً مخفّفاً. فسُحقاً لنا... سُحقاً لنا يا مُحمّد.