دمشق | في التسعينيات، هجر محمد مظلوم (1963) بغداد التي كانت تعيش نسختها الأولى من الجحيم، عابراً الحدود إلى دمشق، ولم يغادرها إلى اليوم. المحنة التي تعيشها المدينة، منذ ثلاث سنوات استدعت كتابتها من موقعٍ آخر. وجد الشاعر العراقي نفسه مفتوناً بفردوسها الضائع، بعدما أصبح طريق الحرير، طريقاً إلى الحروب، فكانت «معلّقة دمشق» (دار نينوى ـ دمشق).
لا يقتفي صاحب «اسكندر البرابرة» (2004) أثر معلّقات الشعر الجاهلي في رثاء الديار، بقدر ما يسعى إلى توثيق الفجيعة والكارثة وفداحة الخسارة، على غرار ما فعله شعراء معاصرون مثل عبد الأمير الحصيري وتوفيق صايغ، محاولاً، كما يقول، استثمار كل أشكال الشعر المتاحة. تتمازج على قماشة واحدة نصوص وسرديات ووقائع في فسيفساء بلاغية تشبه روح المدينة، بأصوات متعددة تستدعي اليومي والتاريخي والأسطوري، بعيداً من الرطانة والمبارزات الإيديولوجية، أو الانحياز لموقف محدّد، كأننا إزاء «أوديسة» معاصرة، أو رحلة تيه «لا ينتصر فيها آخيل على هكتور، أو طروادة على إسبارطة» يقول.
انكبّ مظلوم على كتابة معلّقته، سنة ونصف السنة، تحت وطأة أصوات الرصاص والانفجارات والقصف، فحاول أن يرمم المدينة شعرياً، بوصفها « أول مقبرة وآخر باب للفردوس»، فدمشق، بالنسبة إليه، هي «مكحلة الأعمى» و«نصف الأبدية التائه» و«سبيكة من ذهب الطوائف». تتناوب المعلّقة هنا إيقاعات مختلفة، تبعاً لانسياب الوقائع. تعلو النبرة حيناً، وتنخفض حيناً آخر، في مشهدية بانورامية، يستحضر الشاعر خلالها صندوق أسرار المدينة وخزائن كنوزها، وسحر هوائها، مفتوناً بحفريات الأمس، قبل أن تقع فريسة للخراب: «الغسّانيون تنتحب قوافلهم في الطريق/ وهم يشمّون لحمك في قصعة تجمّع حولها محاربو الطوائف/ والمسلّحون بالقهر والذكريات».

حاول أن يرمم المدينة
شعرياً بوصفها «أول مقبرة وآخر
باب للفردوس»

يتكشّف معجم صاحب «أندلس لبغداد» عن ثراء بلاغي متدفق، يستمده من مخزون المدينة نفسها المثقلة بتواريخ استثنائية وضعتها في مقام الوجد، كأن حطامها اليوم، ما هو إلا قشرة رقيقة، ستتفتّح عن ثمارٍ جديدة لا تشبه صورتها الراهنة، وهي تغرق بآثام الغرباء. يقول موضحّاً فكرته: «يبدو أننا معنيون في المدن وقت الخطر، وعندما نستشعر خسران تلك المدن نستعيدها بلاغياً. في كل الأحوال، ستغيب مدينة وستشرق مدينة أخرى بشخوصها ورموزها وأماكنها. لذلك كان مهماً أن أرصد حالة التحوّل المحتملة في هوية المدينة، مدينة ما قبل الربيع، وما ستسفر عنه بعد التيه الكبير».
هكذا ينبش مظلوم طبقات المدينة، مثل شاعر جوّال، مستعيداً خطواته في تضاريسها، من قاسيون إلى بردى، قبل أن يتوغّل في تاريخها القديم. دمشق بالنسبة إليه، كما يقول لـ«الأخبار»: «هي البستان الأحلى، وما يأتي بعدها صحراء»، ويختزل المشهد بصورة السيف الدمشقي، هذا السيف الذي كان حاضراً في ليالي الحكواتي والأعراس والمتاحف، وكيف تحوّل الآن، إلى جزّ الأعناق. لا تتوقف مشهديات صاحب «ربيع الجنرالات ونيروز الحلاجين» على الوصف أو الرثاء أو الوقوف على الأطلال. تذهب بعيداً في الذاكرة الشخصية، في سيرةٍ موازية، تستحضر الوجوه والأصوات والحانات، شعراء ومتصوفين وصعاليك، في أرضٍ «لا تتسع للقاتل والقتيل معاً». كأننا حيال جدارية ضخمة، يتقاسم خطوطها وألوانها وتضاريسها، آراميون وعشاق وقَتَلة، فيما يسعى شاعرنا إلى تظهير الصورة على نحوٍ آخر، بتخليص الياسمين من الدم، واستعادة صخب الحانات في مدينة «يتناهبها غزاة الفردوس» و«يحرثها عويل ويبذرها موتى».
لا ينطوي هذا الخراب العمومي على نفحة طللية تستدعيها بنية المعلقات الجاهلية، إذ تأتي التسمية هنا من استدعاء الفخامة البلاغية والبعد الملحمي وموضوعة الحرب أولاً، والتأسيس لنص يجذب السرد إلى حقله من داخل تربة الإيقاع، بما يتلاءم مع محنة مدينة بحجم وتاريخية وفتنة دمشق ثانياً. كما لو أن هذا الشاعر العراقي رغب بردِّ دين قديم لمدينة احتضنته بدفئها طوال عقدين، وإذا بالمنفى يصير بتراكم الألفة والحنين والدنف، منفى اختيارياً بمقام المكان المفتقد: «ها أنا يا دمشق أحتضنكِ.. مثلما احتضنتني يوم جئتك، وعلى قامتي بقايا الطوفان والطاعون واليورانيوم المُنضَّب»، نابذاً «ورد الكراهية» ورائحة الدم وأفعال الطغاة. جحيمية المشهد وتحولات الهوية ونعيق الغربان، استدعت رنيناً مشابهاً لجهة الإيقاع، إذ تتمازج باضطراد موسيقى النثر الخفيضة، بإيقاعات العمود الشعري، وصولاً إلى الموشح، فها هنا أندلس تحتضر وفردوس مفقود وقيثارة مجروحة وحنجرة مخنوقة بالدمع والألم واليأس وكنوز مضيّعة: «يا جنَّة الغريب حين تبدأ الغواية، وساحل الهروب حين تنتهي الحكاية» يقول. هكذا تتوالد صورة دمشق بتنويعات مختلفة، فهي: فضة ضالة في ميراثٍ بعيد» و«حديقة أفلاطون» و«عاصمة الأبد».