«من لم يعرف رضا كبريت خسر كثيراً»، بهذه العبارة نعى «مسرح المدينة»، على صفحته الفايسبوكية، المسرحيّ اللبناني (1930 ــ 2022) الذي رحل أوّل من أمس تاركاً خلفه إرثاً فنياً لم يُوثَّقْ كما ينبغي، ولم يُلتفت إليه أو أنّه سقط عند تقديم وثائقيات مختلفة عن المسرح اللبناني. علماً بأنّ من أبرز أعماله: «متمدّن»، «ثورة على الرجعية»، «يللي بلا مصيبة عجيبة»، «مجنون يحكي»، «المدرسة القديمة» و«حالة طوارئ». الممثل والكاتب والمخرج الذي دُفن أمس الأحد في مدافن الشهداء في بيروت، يغيب أيضاً عن ذاكرة المسرح اليوم، لتعيده لحظة فقدانه إلى الضوء، مثلما أعادته لحظة الاحتفاء به في «مسرح المدينة» عام 2016، حين صدر كتيّب يحمل صوره وأهمّ محطات حياته. كبريت الذي كان مثل كلّ أفراد عائلته، منتمياً إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي أو صديقاً له، كان ممن شاركوا في محاولة الانقلاب التي قام بها الحزب عام 1961، وقُبض عليه حينها قبل أن يترك التعذيب الذي تعرّض له آثاره على جسده. لكنّه ــ وكما يصفه سليمان بختي في مقال ــ كان «صاحب البسمة في سجون القوميين»، وربّما صانع النكتة في أحلك الظروف. وهو الذي زعم أنّ لديه معلومات سرية حول من يقف وراء الانقلاب، ولدى مثوله أمام المحقّق قال إنّ اليابان هي المسؤولة! بقراءة ما كتبه أصدقاؤه أو من عرفوه، يمكننا أن نتصوّر شخصية ساخرة مثقّفة وخفيفة الظل ومنهمكة وحاضرة في حقول كثيرة: العمل الحزبي، المسرح، نقابة موظفي وعمّال «الجامعة الأميركية في بيروت»، العمل المقاوم وشبكة كبيرة من الصداقات والمعارف.
توصف أعمال كبريت بأنّها تنتمي إلى المسرح الشعبي، لجهة ملامستها قضايا اللبنانيين اليومية ببساطة وروح ساخرة قريبة من الناس، عزّزتها خلفيّاته الاجتماعية والبيئة التي نشأ فيها، إذ وُلد في صيدا (جنوب لبنان) حيث حضر جلسات الحكواتي والكراكوز التي بدا واضحاً من أعماله وأسلوبه أنّها أثّرت فيه، إلى جانب حضوره المستمر، متفرّجاً، للمسرحيات التي كانت تقام على مسرح «الفاروق» (وسط ساحة البرج في بيروت). كما أصبح من مرتادي مسرح الثنائي محمد شامل الغول وعبد الرحمن مرعي اللذين كانا يقدّمان المسرح الكوميدي في «المقاصد» و«الجامعة الأميركية». لا شك في أنّ أفكار القومي الاجتماعي ظهرت بشكل أو بآخر في أعمال كبريت، أبرزها مسرحية «الستارة» التي شارك فيها، كتابة وإخراجاً، رفيقه ميشال نبعة.

جابت أولى مسرحياته اللاذعة «ليلة في المخفر» لبنان، بدءاً من الخندق الغميق وانتهاءً بشتورة

عن هذه الشراكة، قال كبريت: «يوم كتبتها، كان ميشال يلازمني طوال الوقت، ليس فقط ليساعدني في كتابتها، بل لكي يساعدني في ترسيخ الأفكار والرؤى. كان يقول لي دائماً: دعنا نتكلم عن وجع الناس، عن قهرهم وما يتعرّضون له من ظلم. وكان يقول: اكتب عن القسوة والظلم، لكن لا تترك الناس بلا أمل. كان يصرّ دائماً على أنّه لا بد من أن تخلق ثائراً ولو كان لا يزال في رحم امرأة... وهكذا حملت الستارة فكرتها». بعد نجاح العمل الذي نال الجائزة الأولى في «مهرجان دمشق» عام 1973، تشارك الثنائي كتابة مسرحية «الإبن» التي حضرت فيها الفنانة المصرية محسنة توفيق، لكنّ عرضها واجه صعوبة بحسب شهادة كتبها كبريت عند رحيل نبعة: «أعاق عرضها أنّها تعرّضت في بعض فصولها إلى أخطاء بعض العرب؛ من زحف ياسر عرفات إلى خيانة أنور السادات وانحلال الأردن وغيرها».
في عام 1957، أسّس الراحل فرقة مسرحية تابعة للحزب كانت عروضها أسبوعية في مناطق مختلفة من بيروت. وكان من أبرز المشاركين في أعمالها أنطون أكرم وليلى أبو عبيد. لكنّه كان قبل ذلك (في بداية الخمسينيات) مَنْ أدخل المسرح إلى بعلبك من خلال فرقة جوّالة عرضت باقة من أعماله، من بينها: «ليلة في المخفر»، «مجنون يحكي»، «المدرسة القديمة» و«حالة طوارئ». وتذكر بعض المصادر أن تذاكر عروضه الأولى كانت تباع بـ «شنكليش وقاورما وخبز مرقوق». جابت أولى مسرحياته اللاذعة «ليلة في المخفر» لبنان، بدءاً من الخندق الغميق وانتهاءً بشتورة. ولدى تقديمها، استدعي كبريت مراراً وجرى التحقيق معه. وفي العرض الأخير حين لم يستدعه أحد، ذهب بنفسه إلى المخفر مستفسراً عن السبب!
عاصر زمن كبريت زمن نضال الأشقر وروجيه عساف وحسن علاء الدين (شوشو) وطبعاً مسرح الرحابنة الغنائي، فيما قدّم أعمالاً مع سناء جميل وجورجينا رزق، وشارك في مسرحية «سنقف سنقف» التي كتب أغانيها غسان مطر وطلال حيدر ولحّنها فيلمون وهبي. غير أنّه لم يحقق نجومية أيّ من هذه الأسماء، ربّما لأنّه هجر الخشبة بعدما بدأت الحرب. في تلك المرحلة، انقطع عن المسرح، واتخذ موقف المنكفئ أو المتراجع عنه. لم يخسر شغفه بالمسرح، لكنّ المدينة خسرت شغفها بالتفاصيل القديمة. وفي إحدى المقابلات، قال كبريت إنه آمن بالمسرح الذي كان له دور، لكنّه لم يكن كـ «دور القصيدة أو الأدب».

* تُقبل التعازي اليوم الإثنين وغداً الثلاثاء في نادي خرّيجي «الجامعة الأميركية في بيروت» (الحمرا) ــ من الساعة الثالثة بعد الظهر ولغاية السابعة مساءً.