عادة ما تنتهي الأفلام التي تستلهم الشكسبيريّات إلى طرفَي نقيض. فإمّا توغل في المعالجات البصريّة حتى لتكاد تختفي الجذور المسرحيّة للنصّ، أو أنّها تسقط في عبوديّة للنصّ بحدّ ذاته إلى درجة لا تعود بعدها لأدوات السينما أهميّة تُذكر. لكن ليس، جويل كوين. فهذا الفيلسوف الذي يكتب بلغة الكاميرا، ينجح في جَسْرِ ذلك التناقض. في أوّل أعماله وحيداً بدون شقيقه إيثان، ها هو يقدّم «تراجيديا ماكبث» بسينما معتدّة بأدواتها التعبيرية، تستدعي المسرح وتحتفي به بدون أن تخضع له. بل تجادله لتصنع من تناقضهما الأبديّ فنّاً آخر مختلفاً تماماً. كأنّه ما بعد السينما وما بعد المسرح، لكنّه مع ذلك محمّل بجيناتهما الوراثيّة في كل خلاياه النابضة بالحياة. بالطبع ليست «تراجيديا ماكبث» (أو المأساة الاسكتلنديّة كما يدعوها المتطيّرون ليتجنبوا ذكر اسمها) بالعمل الذي يسهل تقديمه سينمائياً. هذه المسرحيّة التي عرضت للمرة الأولى عام 1606 تُعدّ أقصر النصوص الشكسبيريّة على الإطلاق (نصف عدد أسطر «هاملت»)، ونصّها شعريّ بامتياز، ورموزها كثيفة ومتعدّدة، ترتبط بجذر تاريخيّ غائر (هناك جذور حقيقية لملك اسكتلندي قديم يدعى ماكبث) وجغرافيا نافرة (إسكتلندا). تستند حكايتها إلى مزاوجة بين الماديّ والمتخيّل، وتلتبس فيها تصنيفات الخير والشرّ، ويكسوها مزاج كئيب ودمويّ وحاد، لا يرحم فيها الموت العنيف أحداً مهما علا منصبه، أو صغر عمره، أو تعالت شجاعته. كما لها بُعد سياسيّ يفرض حضوره على الزمن المعاصر لكل عرض. إلى ذلك كلّه، فإن السينما العالميّة قدّمت بتوقيع عدة مخرجين مهمّين محاولات لتقديم «ماكبث»، ربما كانت أشهرها نسخة رومان بولانسكي (1971). ولذا، فإنّ مهمّة كوين في تقديمها للقرن الحادي والعشرين مثّلت تحديّاً، لا سيّما أنّ مدرسة الأخوين كوين لها ملامح محددة وطابع مغاير منذ عملهما الأول Blood simple في 1984. ملامح لا يمكن تجاوزها أقلّه في ذهن متابعيهما الأوفياء سواء في اختيار موضوعاتهما (الجرائم والحوادث)، أو أسلوبهما، أي الـ «نيو نوار»، أو فلسفة التصوير وحركة الكاميرا التي تستلهم سينما مجموعة من أفلام هوليوود في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي. أفلام اعتمدت على التصوير بالأسود والأبيض، وعلى زوايا الكاميرا المائلة والمعلّقة، واللّعب بالتباين بين الضوء والظلال مع معالجة ثيمات مثل الاغتراب والعدميّة والتشاؤم والالتباس.
جدران صامتة، وتجريدات هندسيّة، وخطوط صريحة ولقطات عالية أو منخفضة الزاوية


لكن كما يليق بعبقري تعبير سينمائيّ، صاغ كوين من كل تلك الإطارات والمحددات مقاربةً أخاذة للعمل الشكسبيريّ تبدو في مجملها كأنّها اكتمال للنصّ وتجسيد بديع له، لا مجرّد قراءة أخرى ملونة بانحيازات صاحبها وأثقال زمانه.
استدعى كوين فريق أحلام لتنفيذ العمل. لا أقلّ من دينزل واشنطن – الأفروأميركيّ – للعب دور ماكبث الموهوم والمهموم، أو فرانسيس ماكدورماند – الليدي ماكبث – المرأة اليائسة التي تسعى لاغتنام فرصة أخيرة للمجد، كما برونو ديلبونيل المصور السينمائي الفرنسي الخبير بلعبة الضوء والظلّ، إلى جانب فريق من الممثلين من جنسيات وعرقيّات مختلفة قريبين من أجواء المسرح ويشتركون جميعاً في ولعهم بمسرحيّات شكسبير.
سرديّة كوين ظلّت وفيّة للخطوط العريضة في النّص الأصلي. فماكبث ضابط إسكتلندي شجاع يتلقى نبوءة من ثلاث ساحرات، يمثّلن الظلام والفوضى والنّزاع قامت بأدوارهن في الفيلم الممثلة المبدعة كاثرين هنتر. نبوءة تقضي أنه في يوم من الأيام، سوف يصبح ماكبث ملكاً لإسكتلندا. تسيطر الفكرة على عقله، ويدفعه الطموح وتشجيع الليدي ماكبث، إلى اغتيال الملك دانكان والقفز على عرش البلاد مكانه. لكّنه يقع فريسة الشعور بالذّنب لقتل قائده وضيفه، بينما تمسّه لعنة النرجسية وجنون العظمة، وينتهي في الدّفاع عن ديمومة عرشه إلى الإيعاز بالمزيد من جرائم القتل لحماية نفسه من العداوة، والشك، والخيانات الحقيقيّة والمتخيّلة. الطريق المجللة بالدم في أجواء الحكم قادت الجميع إلى حرب أهلية ابتلعت في طريقها كثيرين بمن فيهم ماكبث الملك، وزوجته اللذين غرقا في لجج من كوابيس البارانويا والجنون قبل أن يختطفهما الموت المروّع.
في النصّ الشكسبيريّ الأصلي لـ «ماكبث»، تعاني الشخصيات، إلا البطل الرئيس، من تهميش وتسطيح نسبيّ. لذا لا يتمكّن ممثلوها أبداً من التوفيق بين أفعال الشخصيّات القاسية وبلاغتها الشعرية، بل تبدو بعض المشاهد المفصليّة بين ماكبث وزوجته أقصر مما يحتمل المشهد من توتر وعمق. ولكن كوين يملأ كثيراً من هذه الفجوات من خلال حرفيّته في تقديم صياغة بصريّة فنيّة لمشاهد العنف المحرّمة: خذ مثلاً اغتيال الملك دانكان في سريره: ماكبث يتلو نصاً شعريّاً طويلاً لما يعتمل في صدره من أفكار بينما يقترب من مكان نوم الملك، ثم يجلس إلى سرير الرجل العجوز، ويدرس متأملاً لفترة وجهه بينما يستغرق في نوم عميق. وعندما يكاد سيء الحظّ أن يفتح عينيه، يغلق له ماكبث فمه بيد ويدفع بخنجر الخيانة في عنقه باليد الأخرى. ولا ينتهي المشهد هنا، إذ يقطر الدم الداكن نقطةً نقطةً من طرف السرير إلى الأرض، ليخلق لوحة شعريّة صامتة حروفها درجات الرمادي وموسيقاها لعبة الظلّ والظلال، ولا تقلّ في براعتها عن النصّ الشعري الشكسبيري بشيء. كوين هنا كأنّه يُعيد خلق ذلك الاشتعال الغامض لبريق الضوء في الظلام الذي رافق لحظة ولادة السينما عندما كانت اختراعاً جديداً غامضاً سحر الجمهور وأثار اضطرابه وأفقده الإحساس بالزمن الذي تسجّله الساعات.


في المحاولات السابقة لتقديم «تراجيديا ماكبث» سينمائياً، بحث المخرجون بإخلاص عن مواقع جغرافيّة تمنحهم القدرة على استضافة الحكاية الشكسبيريّة في مناخها الكابوسيّ والتاريخيّ في آن: قلاع قديمة وغابات ومستنقعات وجبال عالية يسكنها الضباب. كوين في المقابل ينقل كل شيء إلى الاستوديو (لوس أنجليس) كأنّه ينفي الطبيعة ويصنع فيلماً على خشبة مسرح: فضاء تراجيديا ماكبث عمارة مشيّدة من تباين الظل والضوء، والجدران الصامتة، والتجريدات الهندسيّة، والخطوط الصريحة واللّقطات العالية أو المنخفضة الزاوية، والموسيقى التصويريّة والصوتيّات وملامح وجه دينزل واشنطن المميزة، مانحاً النصّ والتّمثيل خلفيّة تُبرزهما وتتعملق لتسندهما كلاعب ثالث في الوقت نفسه.
واشنطن قدّم بدوره أداء لا يُنسى في دور ماكبث الذي تجرّأ كوين على منحه للمرة الأولى ربّما في تاريخ المسرحيّة لممثل أسود البشرة. تألقت فرانسيس ماكدورماند بقدرتها الهائلة على التعبير عن المشاعر من خلال تعابير وجهها، لكّن إبداعهما كان أيضاً أعلى في استعراض ثنائيّة الذّكر المتردد والأنثى العازمة بتناغم نادر. لم يحاول كوين توحيد لهجات الممثلين، أو تقليم أظافر الشِّعر، فتليت المقاطع والحوارات بلهجات بريطانيّة وإيرلنديّة وأميركيّة من أقاليم متعددة، لتردد صداها أصوات أدوات موسيقيّة متنوعة تعزف معاً كأوركسترا لحناً خالداً.
مع إخلاصه الملحوظ للنصّ الشكسبيري، فإن كوين يختار بأناقة تلوينات على بعض مواضع التعبير وفق صياغات في قراءات سابقة (مثل تلك اللحظة عندما توغر الليدي ماكبث صدر زوجها ليخوض المؤامرة، فيسألها «وإن فشلنا؟» وهنا تجيبه وفق النصّ الأصلي: «وهل نفشل؟». مما يوحي بالثقة العمياء، لكن كوين يبدلها بسؤال استنكاري – ورد في قراءات لاحقة – «ولنفشل» بمعنى فلنحاول ولنا على الأقل شرف المحاولة). كذلك هو يمنح عمقاً لشخصيّة روس (أليكس هاسيل) كماسك لخيط شرّ يبدأ قبل ماكبث ويمتد لما بعده في سخرية عميقة عن نجاح الجبناء وعديمي الأخلاق وفقراء المبادئ وحدهم في صراع البقاء. كما يصمّم نهاية الحكاية بأسلوبه الفلسفيّ المعروف حول تفاهة الشرّ وعجز البشر أمام الأقدار، ولا يكتفي بإيقاف السرديّة لحظة النهاية المأساويّة لماكبث. «لا أجد الكلمات» ـــ كما يقول ماكبث ـــ للتعبير عن عبقريّة هذه النسخة من المأساة الاسكتلنديّة. لو كان شكسبير بيننا لوقف احتراماً وصفّق طويلاً لجويل كوين!

The Tragedy of Macbeth
على Apple TV+