كان ذلك في شباط (فبراير) 2004، ترافقت الصحف الورقية مع عدد جديد من «كتاب في جريدة». تجربة بدأت عام 1995 واستمرّت قرابة عقد، وحملت «الضوء الأزرق» للقراء في 14 بلداً عربياً تغطيها، ولم يكن حسين البرغوثي (1954-2002) الذي مرّت على رحيله عشرون عاماً، مقروءاً بشكل كبير خارج فلسطين، وربما ليس بعيداً عن الواقع القول إنه ما زال كذلك.لطالما قُدّم هذا الكتاب (صدر للمرة الأولى في عام 2001)، كما لو أنه أفضل عمل ظهرت فيه شخصية البرغوثي كاتباً، ربما لأنه أقلّها تعقيداً وأكثرها سلاسة، أو ربما لأنه سيرة ذاتية كانت ببساطة أجمل كتبه، أو كما رأى محمود درويش في مقدمة ترجمة الكتاب إلى الفرنسية أن «شاعرية حسين الحقيقية تحقّقت في «الضوء الأزرق» كما لم تتحقق في محاولاته الشعرية». لذلك حين يسأل أي قارئ عن أعمال البرغوثي، يُنصح غالباً بالبدء بهذا العمل.
لكن تجميع صاحب «توجد ألفاظ أوحش من هذه» (1998) في صورة محددة له كمؤلف قد يكون صعباً، فأعماله لا تتيح مثل هذا التحديد، بالنظر إلى تعدد الهويات والأصوات والأساليب والموضوعات في إصداراته، فضلاً عن الكتابة نفسها التي تتفاوت أو تختلف من عمل إلى آخر، وكذلك من نوع أدبي إلى سواه. إنما لنقل مجازاً إن كتابات البرغوثي، مثل شخصيته كما يتذكّرها ويصفها من عرفوه، لها «كاريزما» تشدّك إليها، لجهة خصوصية موضوعاتها وخياراته في التجريب واللغة والغرابة والثراء المعرفي والبعد الصوفي الذي يلعب دوراً جليّاً فيها، إلى جانب لعبه الحر متجاوزاً الزمان والسياق الثقافي الذي عاش فيه.
عندما انتقل البرغوثي، ابن قرية كوبر، لمتابعة دراسات العلوم السياسية في هنغاريا، عاد منها ليصفها بالبلد «المتاهة» والمصاب بـ «الفصام بين الشرق والغرب واللغات الأجنبية»، يقول: «فيه صرت أجنبياً بالنسبة إلى نفسي». هذه النظرة إلى المكان، أيّ مكان، أقدم عند الكاتب من رحلته إلى هنغاريا، ويبدو أنها جزء من طريقة تفكير البرغوثي أصلاً في الجغرافيا بوصفها متاهة يضيع إدراكه بها وفيها باستمرار. نجده يصف سياتل، المكان الأساسي في «الضوء الأزرق»، بأنها «مصيدة». وفي بيروت يروي كيف ضاع صغيراً وفقد قدرته على تذكّر عنوان سكنه وغاب عنه تماماً اسم الشارع الذي يقف فيه. الخريطة الأوضح في نظره موجودة عند «المشبوهين بالجنون... والصعاليك». ثمة لحظات كثيرة ومتقطعة من فقدان الصلة والوعي بالمساحة التي يتحرك خلالها. وفي إحدى محاولات صاحب «حجر الورد» (2002) تفسير ذلك، يذكر كيف يُعتقد بأن الفلسطينيين، تاريخياً، من شعوب البحر التي كانت تطوف المتوسط وتاه أبناؤها.
هذا العاقل كما يبدو من الخارج يقف على حافة الجنون من داخله، لذلك حين يهرب البرغوثي، مجازاً، من سياتل حيث كان يدرس الأدب المقارن، إلى سياتل الهيبيز والمشرّدين والمجاذيب وأشباههم بكل جاذبيتها، فإنه يفرّ أيضاً من الأكاديميا الأميركية باعتبارها مجتمعاً تقليدياً راسخاً ومحكوماً ينفر بطبيعته منه حتى وإن انتمى إليه، ويندمج أكثر في العالم الهامشي الطلق الذي يبنيه أبناء المجتمع المضاد للأكاديميا من العابرين للنظام والجندر والأديان والعقل.
كتاباته مثل شخصيته، ذات «كاريزما» لجهة خصوصية موضوعاتها وخياراته في التجريب واللغة والغرابة والبعد الصوفي


تتجاذب كتابة البرغوثي قوتان: الأولى جاذبة لعالم أخفّ لا تحكمه القواعد والمنطق، والأخرى طاردة ومركزية وتتدفق من الواقع. نلمس ذلك في الجزء الثاني من سيرته «سأكون بين اللوز» (2002). فيها يكرر سؤال نفسه «هذا شو؟» (سؤال تعلّمه من ابنه آثر)، عمّا يحيط به من الأشياء المألوفة متحسّساً محيطه من جديد كما لو أنها المرة الأولى. يتقمّص حسين شخصية طفله ويعرّض نفسه لمخيلة صغيرهِ ويترك خياله يتمغنط فيها. «يقول آثر بأن علاء الدين تأخّر في الرجوع إلى مغارته اليوم، فطغى عليّ شعور بأننا نحن الثلاثة (يقصد نفسه وزوجته بترا وابنه) ولدنا خارج الزمن»، أو حين يقول: «رأى في الحرش بيت النمل فأخذ يرقص،... قال لي: حسين هنا بيت نمل ارقص ارقص، ورقصت. كنت وكأنني أتعلم الانتباه إلى التفاصيل». «كنا ثلاثتنا في المغارة، (...) عندما، قبل الانتفاضة شعرت برائحة الموت في الجو، ومات وجهي (...)، قلت لبترا إن علينا أن نهاجر إلى كندا ربما قبل أن تنتشر رائحة الموت أكثر، الفرار! ولكن فلسطين قفص».
يقول الابن لوالده «شوف» أكثر من مرة في الكتاب، ويعطيه أوامر بالرقص والقول والفعل والحركة. على هذا النحو، يحلّ آثر محل الصوفي الذي يرى ما لا يراه حسين ويدرك ما لا يدركه. ينهمك الطفل باكتشاف الحياة الدنيا التي يوشك على دخولها، غير أنّ الفضول الذي يحرك حسين نحو الأسئلة معاكس لذلك، إنه شغف متأخر لمن يوشك على مغادرة هذه الحياة، النفس الأخير من رغبته في إعادة ترتيب الطبيعة والمدن والناس وحتى الذاكرة، فالكتاب الذي وضعه صاحبه وهو يصارع السرطان كان آخر أعماله، وفيه يقول: «السرطان إطلالة على جبلين في ناحيتين مختلفتين: جبل اللحم غرباً والحلم شرقاً، جبل الجسم تحت، والوهم فوق».
ربما يكون البرغوثي، في الأدب الفلسطيني، أفضل ممثّل للكتابة تحت تأثير قوتَي العقل والجنون اللتين تتنازعان الواقع الفلسطيني أصلاً. وهو يوظّف هذا التنازع في الكتابة لأن لديه حقيقةً ما يريد وصفها. حقيقة ذات تحديات جمالية وأسئلة وجودية ومعضلات سياسية ومواقف فوق واقعية. في الكتاب نفسه، نراه يدخل المستشفى ليعرف إن كان مصاباً بالإيدز، يدخل في نفس اللحظة التي يصل فيها إسعاف الهلال الأحمر جالباً جرحى من أحداث الانتفاضة الثانية. يموضع نفسه في موقف حائر بين المدنّس والمقدس، حتى الممرضات يجدن في سؤاله عن طبيب الدم وقاحة. الآن وقت تحاليل إنسان عادي، لا هو جريح ولا مصاب! وفي اللحظة التالية التي يصله الخبر السعيد، إنه ليس مصاباً بالإيدز يكتشف أن لديه ليمفوما (سرطان الغدة الدرقية). يضع نفسه ثانية في موقف الحيرة، بين العافية والمرض، بينما يقرأ على جدار مختبر تحاليل الدم لوحة كُتب عليها «السرطان يشفي من التدخين». السرطان وردة، نعمة. «فش إيدز؟» فرحاً في ممر المستشفى المضاء بقوة، يقول لنفسه: «حسين شوف»، قبل أن ينهار لاحقاً في الطريق على جذع شجرة صنوبر وينتحب، هذه المرة يبكي البرغوثي على جسده المصاب.
في غالبية أعمال مؤلف «ريشة الذهب»، هناك استدعاء للقصص الشعبية والأساطير والشعر القديم المحكيّ والفصيح والتاريخ العربي القديم والكتب المقدّسة. ثمة اشتقاقات وتنويعات واستعادات من خلالها يجعل الماضي حاضراً باستمرار، فالماضي المتاح مُلهم لمن يستطيع التعرف إليه والقبض على شيء منه. الأدب السابق بأرشيفه وسلطته وحواشيه هو أحد أكثر مصادر كتابة البرغوثي وضوحاً وغنى. و«قصص عن زمن وثني» مثال على ذلك، إذ يتخيل نفسه يعيش في زمن الجاهلية، في قافلة تجوب الصحراء ليلاً، مستعيداً الزمن المليء بالغوامض والمحرمات والشعر وامرئ القيس وأخبار الجن. وهناك دائماً دليل يأخذه من يده ليخرج من الزمن والواقع. قد يكون هذا الدليل متصوّفاً من قونيه في «الضوء الأزرق» أو كاهناً في «قصص عن زمن وثني» أو آثر في «سأكون بين اللوز».
كان البرغوثي نفسه دليلاً في أماكن كثيرة في الثقافة الفلسطينية، رغم أنه كان مهمّشاً ككاتب وشاعر إلى حد ما، فنحن مثلاً لن نقرأ له في أي أنطولوجيا للأدب الفلسطيني إلا بعد سنوات قليلة من وفاته. غير أن حضوره في الوسط الأكاديمي في رام الله كان فارقاً كما نقرأ من كتابات من عاصروه ومنها «مدوّنة حسين البرغوثي في قوانين الشعر العربي» لمراد السوداني. يظهر البرغوثي كعارف وله مريدون في حرم جامعة بير زيت التي كان يدرّس فيها أو في بيته حيث يتحلق حوله طلبته في مجموعات ترتاد منزله خارج سياق الدراسة للقراءة والنقاش، بالحرية ذاتها التي فتح فيها محاضراته الرسمية على الجدل.
الكتابات عن البرغوثي اليوم وفيرة، لكنها في مجملها شهادات يحكمها الشخصي والذوق الأدبي والمعرفة المباشرة. غير أن أطروحة الباحثة حنين العمري التي قدّمتها عام 2019 بعنوان «الكشف عن الأدب: حالة حسين البرغوثي» في «جامعة لايدن» الهولندية، تقدم قراءة شاملة لما تطلق عليه «ارتحالاته الأدبية» التي ترى بأنها تتجلّى في تخليه عن مجموعة من الاعتبارات الأدبية المعروفة والتطلعات السياسية. وتوضح كيف أن انخراط البرغوثي مع المجتمع والحياة الفلسطينية قد تأسّس على التشكيك في معاني التمثيل وعلى إيجاد أنماط من التجاوزات الأدبية، وبدلاً من ذلك تقديم منظور جديد لمفاهيم النضال السياسي والأرض والكتابة. درست العمري أيضاً عمل البرغوثي من الداخل وعلاقته بالمشهد الأدبي، وكيفية تفاعل الفرد (البرغوثي) مع المجتمع (الأدب الفلسطيني) والتأثير فيه والتأثّر به.
مع ذلك، رغم كل ما يبدو عليه هذا الكاتب من تعدد وميل إلى التعقيد، إلا أن ثمة نسخة أبسط منه، تلك التي نتعرف إليها بصوت كاميليا جبران أيام «فرقة صابرين»، في أغنية «رسالة مبعد» مثلاً، حيث الشوق يبدأ، على طريقة السيّاب، من العينين: «عيناك غابة زنبق/ تحت الغروب، أمامك أهذي وأعرق/ وأقول الوداع نلتقي ذات يوم». وهناك أغنيات يظهر فيها حسّه الشعبي الحزين القريب من القلب: «أبو حبلة شعره فلفل وحب زبيب/ أبو حبلة عيونه خضرا وفيها حده/ شفته غافي عالرمل حدو عحدي/ في شواطئ تل أبيب/ يمكن بكى، وتذكر أهله يمكن مشى، وتذكر أصله...». أو في أغنية «رام الله 1989» الأقرب إلى يومية قصيرة من اللامبالاة والسأم يكتبها شخص يحتضر: «مرات بمشي لحالي بنص الليل، والليل مثل النهر/ وايدي في جيبي يا بصفر يا بدخن، هيك من كثر القهر/ كل المدينة مسكرة فشي حدا غير الفضا والجيش/ غير الهوا بلعب مع ضواو الشوارع ولّا في خصل الشعر/ بوقف عحد السور ذقني عإيدي بوقف وفكّر كيف كل اللي ظل من العمر خلقة شهر».
على شاهدة قبر البرغوثي الرخامية، حيث دُفن في كوبر، أسطر من قصيدة ومكتوب أيضاً: «إن زرتني سأكون بين اللوز»...