ما من قضيّة، اليوم، قادرة على طرح نفسها، والتواجد والتجدّد في جوهر التفكير الفلسفي والسياسي والأدبي مثل القضيّة الفلسطينية. لا يقتصر هذا التجدّد على طاقتها في مساءلة مفهوم الحرية في مرحلة بناء الحريات واندثارها الآن، ولا لكونها تُعيد في كل مرة خلق ديالكتيكيات ثانوية للدياليكتيك المركزي للسلطة والمعرفة، بل لأنّها تظلّ على الدّوام القضية الأكثر قوةً في حضورها الإنساني، وقدرتها على إعادة الإنتاج اللامتناهية لفكرة عجز العالَم عن التخلص من همجيّته كلّما أوغل في التقدّم.في الوقت الذي بدت فيه فلسطين في حالة تمدّدٍ في الوجود المرئي والمحسوس، كان الشاعر والروائيّ والمفكر الفلسطيني حسين البرغوثي يتمدّد داخل بدائل أخرى في الوجود المتخيّل، حيث يتأكّد غيابه، ويستفحل صمته، ويتوغل تفكيره في الزمان والمكان بأبعادهما الثلاثية من دون أن ينتمي للنهاية، ومن دون أن ينفصل عنها. الهيتروتوبي الفلسطيني بامتياز - ذلك الحديّ الذي أسقط على الكلمات المعاني التي لم تتناسب مع راهنيّة واقعها، وأسكنها في حيّز آخر فرضت حضوراً مغايراً لها، وبالتالي فتحتها على دلالات جديدة وتصوّراتٍ مصقولة حول اللّغة ودورها الغزير في تكثيف الرؤية حول المكان وعلاقته المتحوّلة معه.
من هناك، يأتي الكاتب والمفكّر والشاعر، من التأملات التي تجمع بين الوهم والأساطير والخرافات والواقع والذاكرة والراهن والمستقبل. خليط من أفكار تبدو أحياناً عائمة على سطح الشعرية وسحر اللّغة، لكنها في الحقيقة حالات اكتشاف لا متناهية لمعنى المكان الفلسطيني الذي يكسرُ حاجز الزمن وحاجز التراتبية مجرداً من حمولاته السياسية والمعرفية أحادية الاتجاه. هكذا هي طريق الغموض التي سلكها البرغوثي في سيرورة الاكتمال، الطريق التي ابتعدت عن الوضوح، ودخلت في دهاليز الحركة، الحركة في كل الاتجاهات، نحو كل الأمكنة والفضاءات، لتُعيد خلق وتشكيل المكان الفلسطيني البديل، المكان الجديد القادم من رحم العالم، لا من رحم مأساته فقط.
بعيداً عن الإيديولوجي، قريباً من المعرفي، أخذ البرغوثي على عاتقه منهج الحفر الحر في أصول الأشياء لتتجاوز إرادة المعرفة لديه الخطاب السائد ويكتب المختلف والمغاير في عمق المألوف. ولعلّ أكثر ما يلخّص هذه الرؤية للمعرفة هو طرحه لفكرة الغموض كطريق بديلة: «وبدا لي أنني أرى فيه طريقاً بثلاث شعب كما في حكايات أهلي عن الجن: طريق الوضوح، وطريق الغموض وطريق اللاعودة. في أيّة شعبة مشيتُ في بدايتي؟ ليس في طريق الوضوح، فقد عشتُ تائهاً ثلاثين عاماً، وليس في طريق اللاعودة، فقد عدتُ إلى الدير، وبالتالي، مشيتُ، حتماً، في الغموض» (سأكون بين اللوز).
هكذا، مستعيداً ذاكرة الجسد والتصوّر، يوغلُ البرغوثي في تأملاته الأخيرة حول المكان وغرائزه، وحول الذات التي سكنَت بديلها الزمني في رحم المكان وأخذت تتشكّل في بطء وصمت، منقطعةً عن الضجيج في عملية إدراك العالَم. نحو اللامرئي بديلاً عن المرئي، واللامنظّم بديلاً عن المنظّم، والحر بديلاً عن المُمأسس، كان البرغوثي يؤثّث لفكرة الفراغ والبحث عن بدائل لمستقبل المكان.
تقنية «الكولاج» جعلته يدمج بين الأغنية العامية، والشعر، والنثر


لم يكن مشروع حسين سوى تأمّلٍ في المكان العام، وإعادة النظر في أمكنته الخاصة. هذا الهوس بالمكان الجغرافي الذي لم يكن سوى انفتاح على رؤية قادمة من مستقبلٍ قريب بعيد، بعيد بقدر قُربه وبُعده عن المكان. أتاح صاحب «الضوء الأزرق» لنفسه فرصة خلق المكان البديل في خياله، وهو المكان الذي ساعده على خلق مسافة تمكّنه من أن يظل كينونة مستقلة غير قابلة للخضوع للمصطلحات والمفاهيم، أن توجد بدائل، وطرائق جديدة في التفكير، في محاولات إعادة صياغة العلاقات بين الأشياء ومسمياتها، وبين الأشياء ومعانيها، لتشكّل المعرفة المساحة الوحيدة لحرية الوجود، على حد تعبير ميشيل فوكو.
ولعلّ علاقته مع المكان وتمثّلاته هي نفسها المعبّر عنها في علاقته مع اللّغة والمسمّيات: «أعرف أن هذه، مثلاً، صنوبرة، وهذا جبل وهذا قمر. ولكن أشعر وكأنني أركز أكثر على كون هذه الأسماء، هذه الإشارات، لا تستوعب الدلالة، فيستولي عليّ شعور بأن الأشياء تطفح أو تفيض ما يزيد من تراجع الإشارات وانكماشها في زاوية «المعاد إدراكه» أعني، بكلمات أبسط، أن أشعر بأن ما أعرفه ينفصل بحدّة عما أراه، فأرى شيئاً لا أعرفه بالضبط وأعرف شيئاً لا أراه بالضبط، إلى حدّ أنني مرة، كنت أحدّق في القمر فبدا قاب قوسين أو أدنى مخيفاً حاضراً، وضربت جبيني بيدي مكرّراً «هذا قمر! هذا قمر! هذا قمر! لا تنس ذلك! هذا هو… لا تنس ذلك» (الفراغ الذي رأى التفاصيل).
هذا «المعاد إدراكه» وهذا التجاوز للكلمات إلى ما هو أبعد من معانيها المكرورة، يفتحُ مشروع البرغوثي على الاحتمالات اللامحدودة للأسئلة وإغلاق باب اليقينيات حيال الدال ومدلوله. ومن هنا، جاءت كتابة «الضوء الأزرق» رحلة في مفهوم البحث في المعنى الأفقي للأشياء لا العمودي.
بالتأمل في الحرية وفي تحرير المكان من أزمته، أدرك البرغوثي أن بناء الإنسان الفلسطيني في المجتمع أهمّ من بنائه في الدولة، ولا عجب أن يعلن في آخر حواراته حلمه بمجتمع بلا دولة حيث لا ينغلق الفرد على هويّته في حدوده الجغرافية، وحيث لا سلطة أكبر من سلطة الإنسان وحريته.
لا يُجِدْ البرغوثي سوى صناعة الكلمات، وإجادة هذا العَمل في تحديد الرؤى، هذا الكائن القادم من الماضي، الذي حيّد راهنه، وجبلَ هويةً مستقبلية وتربّع في الزمن القادم من دون أن يتواجد فيه جسداً. من هنا، نجح في أن يجمع مفردات الواقع الفلسطيني، وواقع الذات المتحركة بين زمان ومكان منفتحَين على محور الإنسان في العالَم ــ المكان الكبير، ومحور الإنسان في العالَم الأصغر ــ المكان الفلسطيني، وبهذا تمكّن من أن يمنح وحدةً للإنسانَين، وللمكانَين، فبات المكان الفلسطيني عالمياً منتشراً في كل الجهات. يتوازى هذا الانتشار مع فكرة أخرى لديه هي «الكولاج» في النصوص، هذه التقنيّة التي جعلته يدمج على حدّ تعبيره بين الأغنية العامية، والشعر الكلاسيكي، والنثر، والاقتباس، والتفعيلات، والبحور القديمة، والتفعيلة... وبهذه «الفوضى»، تنتشر الإيقاعات وتتوغل وتتلاطم، وهي الفوضى التي يريدها البرغوثي في الكتابة، تلك التي لا تعيد للأشياء انسجامها بقدر ما «تفتح الطريق للمتناقض مع نفسه وغيره». وهذه الفكرة كافية لترسم الطريق التي سلكها في تأمل المكان وعلاقته معه في حدود الكتابة.
لا أدري كم كاتباً فلسطينياً، شاعراً، وناقداً وروائياً ومفكراً، نجح في أن يطرح الامتداد الفلسطيني، بلجوئه وواقعه المحتل وذاته اليومية، أي بهويّاته المنتشرة، من خلال استقلالية الرؤيا والمحافظة على مسافة نقدية، مع خيار اللااندماج فيما هو مؤطّر، والمناداة بإعادة صياغة العلاقات بين الأشياء والكلمات.
فما هو المستقبل الذي أراده حسين البرغوثي من وراء هذه الرؤى؟

* باحثة ومترجمة فلسطينية