في الشارع الرئيسي في رام الله، «شارع رُكَب»، التقيته. كانت قد مضت شهور على إصابته بالسرطان، وعلى جرعات علاجه المكثّفة. وكان متفائلاً. قال إنّه يُحسّ بأن 95 في المئة من الورم قد انتهى، وأن ما تبقّى هو «عقدة صغيرة هنا»، واضعاً إصبعه أسفل حنكه وأعلى رقبته. وكان واثقاً تقريباً بأنّ هذه العقدة ستتفكّك.روى لي كيف أن الأمر بدأ معه بالعرق. كان يصحو من النوم مبلّلاً كما لو أنه يسبح في البحر بملابسه. ثم تبيّن أنه سرطان الغدة اللّيمفاوية. وكان السرطان قد زارني عام 2000 قبل أن يزوره. لكنّه كمن لي في القولون. وحين عملت المنظار، كانت الشاشة أمام عيني، والكاميرا الصغيرة في رأس المنظار تعرض لي أنفاق أمعائي وكهوفها. الإنسان غريب عن جسده. غريب عن أعضائه. لا يعرف الإنسان دواخله. وهي تبدو كما لو أنها لا تخصّه. وهو يحسّ بهذه الأعضاء فقط عند المرض. وكانت الكاميرا تعرض أنفاق قولوني كما لو أنها تعرض مشهداً من كهوف العصر الحجري القديم الأعلى المعتمة. وعند لحظة محدّدة، عرضت لي فطراً ضخماً يسدّ النفق في نقطة معينة. بدا لي الفطر هائلاً كما لو أنه فطر قنبلة هيروشيما. وحين انتهى الطبيب، سألته عن الفطر، فقال لي:
ـــ إنه تالول (ثؤلول)، وطلب مني أن أذهب إلى طبيب محدّد كي أزيله. كان يريد أن يخفّف عني. لم يكن يريد أن ينطق الكلمة المخيفة: سرطان.
ثم قصّوا الورم وقصّوا معه شريطاً طويلاً من قولوني، ونجوت. لكن الفطر الضخم في قولوني لم يُغادر ذاكرتي. كلّما تذكرت دواخلي، أمعائي، أحسست بانفجارات تشبه انفجارات هيروشيما وناغازاكي. سوف تحكم هذه الانفجارات حلمي ونومي.
لكنني بعد أن نجوت، كنت أعرض نفسي على من يصيبهم السرطان من معارفي كي أقنعهم بأنّه يمكن النجاة. وهكذا حاولت أن أسوّق قصتي عند حسين البرغوثي. لكن حسين كان متفائلاً بطبعه. كان يأخذ الأمر بسلام، ويثق بجسده وبالعلاج.
وبعد شهور طويلة زرته في المشفى. كان حوله عدد من أصدقائه، وكان منهكاً ويتنفّس بصعوبة، لكنّه يناقش مع ذلك. النقاش هو جوهر حسين ولبّه. كان يمشي مثل سقراط ويناقش مثله. كان مشاءً مجادلاً، وبالمعنى الإيجابي لكلمة مجادل. وفي لحظة ما قال لزائريه في المشفى:
ـــ شكراً للحياة.
شعره كان تمزّقاً بين درويش وبين نقيض درويش


أدهشتني العبارة. كانت الحياة تفلت من بين يديه، تخونه، ولا تعطيه الفرصة، لكنه كان يشكرها! وكان هذا غريباً بالنسبة لي. لا أعرف كيف أمكنه فعل ذلك. لعله كان يفصل بين الحياة والموت، ويعطي لكل واحد منهما حصته. فالموت هو الذي يخونه لا الحياة. لذا فهو يقبّل يدي الحياة في لحظات رحيله. ذكّرني هذا بموت القدماء. فحين كان يحلّ موتهم، يصحو الواحد منهم فجأة صحوته الأخيرة، ويجلس على سريره، ويجمع أبناءه قائلاً: «أي بَنِيّ»، ثم يتلو عليهم وصيّته وحكمته ويمضي. لم يكن موت القدماء ممكناً من دون هذا المشهد. هذا مشهد الختام، ويجب أن لا يفوت أبداً. وكان حسين البرغوثي يجلس وأمامه منضدة، والأنابيب في معصميه، وفي أنفه، وهو يقول:
ـــ شكراً للحياة.
كانت علاقتي بحسين البرغوثي جيّدة. لكنّنا لم نكن أصدقاء. كنا نلتقي في الطريق، أو نلتقي في «مركز خليل السكاكيني» حين يأتي كي يسلّمني مادة للنشر، باعتباري سكرتير تحرير مجلة «الكرمل»، أو كي يرى محمود درويش. ومرة دخلنا إلى مكتب محمود درويش معاً. ولا أذكر من الحوار سوى جملة واحدة قالها درويش عن شعر حسين: «نصّك مُغوي». هذا ما أذكره فقط. وكان حسين فخوراً بهذا الوصف من محمود درويش دوماً.
قبل ذلك، كان حسين قد حكى لي بشفته تجربة «الضوء الأزرق». أخذتني التجربة كلياً. قلت له:
ـــ ولماذا لا تكتب التجربة؟ لماذا تبقيها شفوية؟
وبعد شهور عاد وفي يده فصل من كتاب «الضوء الأزرق» الذي لم يكن بعد قد صار كتاباً. ونشرنا الفصل الجميل في «الكرمل».
كان نثر حسين متيناً. بل يمكن القول إنه وصل حدّ الكمال تقريباً. أما شعره فلم يصل إلى هذا الحد. قدمه النثرية كانت راسخة في الأرض، وقدمه الشعرية تحاول أن ترسخ بعد. شعره كان تمزّقاً بين درويش وبين نقيض درويش. تقرأ مقطعاً فتحسّ بلغة درويش المتدفّقة وإيقاعاته العالية، ثم تقرأ مقطعاً ثانياً فتحسّ بأنه لا علاقة له بدرويش مطلقاً، بل إنه يعاديه ويغادره. هكذا كان يجمع بين النقيضَين: الافتتان بدرويش، والافتتان بذاته وتجربته.
وحين أتحدّث عن افتتان حسين بذاته، فلا أقصد المعنى البسيط للافتتان. فلم يكن حسين من ذلك النمط الذي يُفتن بما ينتجه ويفاخر به. كان افتتانه بذاته طرازاً من التعامل مع الكون والحياة. يمشي بشعره الطويل الذي جعّده وجعله يتدفق لوالب ذهبية تصل إلى كتفيه. يمشي ببنطاله ذي الجيوب الكثيرة جداً، مستعداً لأن يقف مع من يصادفه في الشارع ساعة أو ساعتين مناقشاً ومتسائلاً. ويمكن لي أن أقول إنه كان يخترع قيافة أخرى مختلفة. قيافة فيها بساطة وتحلّل من التقاليد والقوانين. لم يكن يقدم نموذجاً في اللغة والفكرة، بل في اللباس والسلوك.
ولهذا فُتن طلّابه به. لم أر أحداً فُتن طلابه كما فعل حسين البرغوثي. كان أسطورتهم. وقد انغرس هؤلاء الطلاب في المشهد الثقافي في فلسطين بعمق. صاروا مفكرين، وكتاب رواية، وشعراء، وباحثين، ومهتمين بعلم النفس والأنثربولوجيا.
رحل حسين البرغوثي في أصعب اللّحظات. كانت الانتفاضة الثانية قد كُسرت، وتحوّلت إلى حصار قاس مدمر، وكانت دبابات العدو تجتاح المدن، وتطحن بجنازيرها الأفق كله. لكن حسين كان قادراً على أن يقول بسلام لا مثيل له:
ـــ شكراً للحياة.
* شاعر فلسطيني