لسببٍ أو لآخر، تفادت أقلام النّقد بلورة خلاصةٍ بحثية تُنصفُ بعض مراحل آداب اللّغة العربية وفقاً لنتاج رجالاتها ممّا هو أكثر إبداعاً، وكان لا بدّ من تقويمه بعمق وجدية، وإنصافه مستحقّاً أو تركه غير مستحق. بهذا المعنى، لم يكتملْ كفايةً استشكالُ الحقبة الممتدة بين أول الثلاثينيّات وحتى أوائل الستينيات في تاريخ القصة القصيرة في سوريا كمُنجزٍ أدبي معاصر في ولادته ونشوئه وتطوّره، بما هو مساحة بحثيّة مثيرة وغنيّة جداً فيما لو تلمّسنا بجديّة وموضوعيّة تعالقها مع الكتابة القصصيةَ في العالم العربي في الزمن والجغرافيا في تلك الفترة. على هذا المستوى، التقَتْ الأقلامُ النقدية على تصنيف فؤاد الشايب (مواليد معلولا ـــ 1911 – 1970) كرائدٍ للقصّة القصيرة في سوريا منتصف القرن الماضي. بَنَتْ ريادته على القيمة الفنية في المُنتج الأدبي ودوره الفاعل في التأسيس لجنس أدبيٍّ جديد، مع تأكيد حضوره في الأسبقية الزمنية مع رفاق آخرين له لا يمكن إغفالهم ومنهم: علي خلقي (1911 – 1984)، وصباح محيي الدين (1925 – 1962)، ونسيب الاختيار (1912 – 1972)، وعلي مظفر سلطان (1911 – 1991) وغيرهم ممّن أبدعوا قبل وخلال مرحلة الوحدة بين سوريا ومصر (1958 – 1961). رفَدَ هذا الاعتبار الريادي ما قاله عبد السلام العجيلي أحد أهم أعلام الأدب في العالم العربي حينذاك عن صديقه الشايب: «كانَ كاتب القصة الأول في سوريا، لا منازع في ذلك، وكل قصة في مجموعته اليتيمة «تاريخ جرح» كتابٌ قائمٌ بذاته، قرأناها في شبابنا وما زال أثرها باقياً في وجداننا الفني». موقف لافت وحُرّ لشخصيّة سياسية/ أدبية سامقة كالعجيلي كانت من أوائل من أبدعوا في هذا الجنس الأدبي محلياً وعربياً في تلك المرحلة وبعدها. ما دفعَ بالعلّامة حسام الخطيب لاحقاً ليعتني بطباعة مؤلفات الشايب بين القصة والسياسة والاجتماع في وزارة الثقافة السورية بإخلاص ووفاء في ثلاثة أجزاء بين عامَي 1984 و1990.
في عام 1944، صدرت مجموعة الشايب القصصية الأولى بعنوان «تاريخ جرح» عن «دار المكشوف» في بيروت. كانت تحمل بين دفّتَيها لغةً سلِسَة وماتعة تنهض على حسن التوظيف والمواءمة بين المفردات للجملة الواحدة، في أسلوب أنيق يرسم جماليات النص في لوحاته الإنسانية كقيمة قصّيةٍ عالية التوصيل بين الكاتب والقارئ، وفِعْلَ إدراكٍ لشخصية أديب/ سياسي مثقّف بحق، حقوقي، بلاغي، حازَ شهادة الأدب الفرنسي من باريس عام 1935، إلى مهامه بين الإعلام في إذاعة دمشق، ولجان التحكيم للقصة القصيرة كعضوٍ مبرزٍ فيها، وليس انتهاءً بمقالاته الغزيرة كرئيس تحرير أو كناقد وباحث في كافة الجرائد والمجلات التي كانت تصدر آنذاك بين دمشق وبيروت وأهمها: «المعرفة» و«المكشوف» و«الآداب».
وصفه عبد السلام العجيلي بـ «كاتب القصة الأول في سورية»


كتبَ الشّايب «تاريخ جرح» بين عامَي 1930 و 1940 وهي تعبّر كما يقول «عن تطورات نفسي في مراحل معينة، وتتضمن كلّ ما أحب وما أبغض في لحظة ما». وصفَها بأنها «وليدة ظروف زمنية وأحوال نفسية». كما كانت قيمةً إضافية في معنى ريادته الفنية، وهو يعالج العلاقة الحديثة الاجتماعية/ الثقافية بين الشرق والغرب توّاً في مهدها، ما تجلّى بوضوح في قصته «الشرقُ شرق». تتناول هذه القصة علاقة الشاب أحمد بالفتاة الفرنسية لوسي في باريس، ومسألة اختلاف الثقافة بينهما بأسلوب طريفٍ جداً، إنما بعمق جدّي يبعثُ على التساؤل عن طبيعة التحول العقدي/ الفكري للفتى الشرقي المهاجر حديثاً في الحواضر الأوروبية، ومفارقات الحوافز السيكولوجية التي تحكم علاقته بفتاة فرنسية كانت تزوره كلّ مساء، ويحدُثُ لهُ معها موقف جديد يحفرُ سلباً في نفقِ صحبتهما القلقة، ويؤكّد اختلاف وجهات النظر التي تربكه في كيفية التصرف معها، فيما هي تتنوع وتمضي افتئاتاً في أحوالها معه كأن تراقصه أو تشرب كأساً معه أو تناقشه في أمور العمل والطعام والعادات بينهما بخلفية عنصرية. حتى تنتهي تلك العلاقة بأن ترحل عنه يائسةً منه، وقد تركت له رسالة وداعٍ سمجةً جداً في النص والمضمون. كانت قصة أحمد نموذجاً واقعياً للشباب المهاجر إلى أوروبا في حينه، اكتسبت أهميتها كتشكيل سردي رؤيوي اتّسم بالجِدّة والجِدّية والطرافة في رسم الواقعة الاجتماعية بين مدَنيتَين مختلِفَتَين بصدق مطلق. بين الأدب والسياسة، كانت حياة الشايب متألّقة حيّة تليق بمواقفه وأفكاره، لكنه رغماً عن ذلك وُضِعَ اعتبارياً ــ بعد وفاته ــــ تحت سلطة التجاهل الإعلامي المحليّ، حتى تكاسلَ النقد أو تغافلَ عن بحثِ وتأويل الأوراق الأدبية لهذا الرجل. لم تكن كتاباته متوافرة بين يدَي القرّاء لسنوات طويلة، مع ما تبيّن لاحقاً من نصوصه القصصية المتناثرة في أوراقه الخاصة وعلى صفحات بعض الجرائد، بل اتُّهِمَ ورفاقه من كتّاب تلك المرحلة، وحتى وقتٍ قريب جداً، بـــ«غلبة الحِكائي على الفنّي وبسرديةٍ مباشرة» غير ذات إبداع، ما استدعى ضرورة البحث بحماسة لاستكناه حقيقة ذلك الاتّهام في السياسة تحديداً. كان فؤاد الشايب مؤيّداً بقوّة للرئيس السوري شكري القوتلي وكاتباً لخُطبه، لاعتبارات قومية ملحّةٍ ومصيرية جداً، ليس أقلها فتح باب الوحدة العربية مع دولة محورية عربية كمصر عبد الناصر التي لاحتْ إرهاصاتها بعد حلف بغداد عام 1955 والعدوان الثلاثي عام 1956 بما حملته من حِراك صحافي وسياسي واجتماعي وثقافي وأدبي، فكانت «الجمهورية العربية المتحدة» بما هي نواة وحدوية في اللغة والقومية والثقافة والتاريخ والجغرافيا تتّحدُ بكينونتها الصلبة شعباً وقادة في مواجهة «اسرائيل» قولاً وفعلاً. «إسرائيل» الكيان الذي تصاعد كقوة دولية حتى اقتنص قرار التقسيم المشؤوم عام 1948 مع نتائجه المأساوية على الأرض حتى هزيمة 1967 في مرحلة حرجة ممّا عاشه أديبنا في صلب معاناته كقومي عربي كانَ الاحتلالُ بكل أوجهه مثارَ غضبٍ وتقزّزٍ لديه بدءاً بالفرنسيّين الذين قاومهم بحدّةٍ مشهودة حتى طاردوه إلى العراق بسبب مواقفه منهم بين 1935 و1939 وليس انتهاءً بالصهاينة المحتلين لفلسطين.
تجاوزَ الشّايب عن الأدوار العادية والمواقف الروتينية إلى محورية واضحة في استحضار الفعل الثقافي كذراع حضارية ترفد المشهد العام للأمة العربية في مواجهة ذلك الكيان الخطير بدءاً بكتابِهِ «كيف نواجه اسرائيل» (1951) الذي قلّ نظيره في النتاجات الأدبية حتى اليوم في التنبيه إلى خطر «الدولة الصهيونية»، ثم انطلاقته بشجاعة في تأسيس منابر وجمعيات ثقافية/ أدبية دافعت عن فلسطين كقضية مركزية حاضرة دائماً، لا سيما في الفترة بين 1967 و1970 التي عُيّنَ فيها ممثلاً للجامعة العربية في الأرجنتين في مهمة بالغة الصعوبة، أعني استجماع قوى الجاليات العربية وتوحيدها في مقابل إمكانية تشكُّلِ دولةٍ صهيونية على أرض فلسطين، ومواجهةٍ علنيةٍ مفتوحة وخطرة هناك مع الجالية اليهودية حتى قام الأخير باغتياله في 11 تموز (يوليو) 1970 وهو يلقي محاضرة في بيونس آيرس يفضح فيها مجازر اسرائيل في دير ياسين، وكفر قاسم وغيرهما. بذلك، ضرب مثالاً قومياً خالداً لشخصية مجتهدة في تأدية واجبها في أيِّ مقامٍ حلّت. كان موت فؤاد الشّايب اغتيالاً موصوفاً خططت له ونفّذته «اسرائيل» بحق رجل الدولة وأديبها، ما شكّل ولا يزال عنواناً واضحاً وسؤالاً مفتوحاً على إشكالية التعتيم على رجالات مرحلة الوحدة القومية العربية الحقّة في تاريخ العرب الحديث أدباً وسياسةً.