يطوي السوريون عشريّة سوداء كاملة، ليس من باب المجاز فقط، بل لجهة العتمة الملموسة في التفاصيل اليومية؛ كأن يؤجّل مسرحيون الصعود إلى الخشبة بما يتطابق مع توقيت عودة التيار الكهربائي. أما البروفات، فيجري تدبير مواعيدها بمشيئة عمل المولّدات وتوافر المحروقات. سيتكرّر المشهد بالمواصفات نفسها في مشاهدة فيلم أو معرض تشكيلي، أو أمسية شعرية، قبل اختراع مصطلح «أصبوحة شعرية». حفنة بشر يتثاءبون في صالة شبه مهجورة، وشاعر يرتّب القوافي بما يتناسب مع متطلّبات وقفة على الأطلال «مِكرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدْبِرٍ معاً». لكننا، خلافاً لسوانا، ارتحلنا عزلتين أو ثلاثاً، عزلة الوباء العمومي، وعزلة الحصار، ولعنة الجغرافيا، وإذا بالبلاد تضيق إلى أقصى درجات الضجر والتثاؤب والتكرار، بالكاد نقع على ما هو مختلف ونافر وسط ركام الإمضاءات المكتوبة بأحبار مزوّرة. عام محتشد بحصص الواجب المدرسي/ الوظيفي، أكثر منه مرآة تعكس حقول عبّاد الشمس وأسماك السلمون المعاندة للتيار، بعدما اقتحمت الساحة كائنات الظل التي كانت حتى الأمس في مقاعد المتفرّجين، ولم يعد مستغرباً أن تجد ورشة إبداعية يقودها مدرّب بحاجة إلى دروس في التدريب، أو ظهور فرقة غنائية لصناعة النّشاز الموسيقي، أو روائي بمرتبة حكواتي في مقهى، وشعراء وشاعرات بالجملة، عدا نقّاد الإنشاء أصحاب المصطلحات الجاهزة من طراز «رواية باذخة» وأخواتها للنصوص المعاقة. ففي موجة الفوضى العاتية، لكلٍ مجذافه في الإبحار، بصرف النظر- في نهاية المطاف- عن الغرق الجماعي.
بالطبع لم يكن المشهد بعمومه حالكاً إلى هذا الحدّ، فهناك التماعات فردية متباعدة تكسر روتينية المشهد بين فترة وأخرى، قبل أن تنزلق إلى مخزن النسيان، لكنها في كل الأحوال ليست بثقل شاحنة الأختام التي تعترضها في الطريق.
هكذا، احتدمت سجالات غاضبة حول قبلة يتبادلها زوجان في فيلم «الإفطار الأخير» للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد، كأن السينما السورية لم تشهد مثل هذه اللقطة قبلاً في أشرطة أخرى، ذلك أنّ رقابة الشارع باتت أكثر صرامة من الرقابة الرسمية بدرجات، كترجيع لثقافة ما بعد الحرب، وتعدّد الخنادق، وضيق أفق المخيّلة.
على المقلب الآخر، ستعبر القدود الحلبية الحدود، بعد قرنٍ ونيّف على ظهورها في التراث الموسيقي الحلبي، لتحجز مكانها على لوائح منظمة اليونسكو بوصفها تراثاً إنسانياً عالمياً. على الأرجح ستهنأ روح صباح فخري في قبره، الأيقونة الغنائية السورية المتفردة، وصاحب الحنجرة التي لا تتكرّر برحيله في 2021. حارس الطرب الأصيل غاب مخلّفاً فراغاً لا يعوّض، كما ضمّ دفتر الخسارات اسم المغنيّة الحلبية ميادة بسيليس، إحدى العلامات النافرة في الخريطة الموسيقيّة السورية باشتغالها في منطقة غنائية شديدة الثراء والخصوبة، هي مزيج من الترتيل الكنسي، والطهرانية، وخفر العشق. كما طوى الشاعر فايز خضور أشرعته عائداً إلى مسقط رأسه «السلميّة» إلى جانب محمد الماغوط، وعلي الجندي، ليستأنف «طقس المقابر»، و«قدّاس الهلاك»، و«غبار الجليد» وفقاً لبعض عناوين دواوينه. وسيخطف الموت القصّاص وليد معماري، الكاتب الساخر الذي كان يصطاد شخوصه من القاع الشعبي في إحالات صريحة لآلام البشر المهملين والمنسيّين. وقبله غاب الشاعر والناقد وفيق سليطين الذي أسّس أرضيةً نقديةً متينة في تفكيك النصّ الصوفي وتحوّلاته، كما غاب في باريس المفكّر ميشيل كيلو.
من ضفة أخرى، واصل أدونيس كتابة يومياته تحت عنوان «دفاتر مهيار الدمشقي»، فيما صدر ديوانه «أدونيادا» بالفرنسية عن «دار سوي»، قبل أن تصدر نسخته العربية عن «دار الساقي»، محتفلاً بتسعينه في مزيج من الحميم الخصوصي، وما يرتبط بالصبوات والشهوات والرغبات، فتصبح الكتابة «أكثرَ عموديةً، ويصبح الحقل المعرفيّ أكثر اتّساعاً وأنقى شفافية. وتصير طرق التعبير أقرب إلى الومضة والشّذرة».
في الفضاء الأدبي، حصد الروائي نبيل سليمان «جائزة سلطان العويس» في نسختها السابعة عشرة، عن حقل القصة والرواية والمسرحية، نظراً «لما تميّزت به تجربته الإبداعية من ثراء وخصوبة. واتّسمت تجربته السردية بالقدرة على المزاوجة ما بين التوثيقي والتخييلي، وما بين السوسيولوجي والسياسي. فرواياته على الرغم من استنادها إلى التاريخ كمادة، ترتفع بهذا «التاريخي» إلى مرتبة «المتخيّل»». ومن العناوين الروائية التي شهدها العام المنصرم، رواية «حبر الغراب» لممدوح عزّام (دار سرد)، و«المئذنة البيضاء» ليعرب العيسى (دار المتوسط).
في باب الموسيقى، أنجز بشار زرقان أسطوانة جديدة بعنوان «أن أراكَ» محتضناً نصوصاً للحلّاج، وأبي نواس، وابن الفارض، والسهر وردي، وهاني نديم، في شجن موسيقي يتأرجح بين التطريب والشطح الصوفي الأخّاذ. عشرية سوداء تطوى، فيما تتأرجح البلاد في عنق الزجاجة، بين يأسٍ مقيم، وأملٍ غامض.