«ولأننا لا ننتهي من الحرب أبداً، صار علينا أن نفعل كل شيء بوجودها». هذا الموجز النثري للكاتب حسن أكرم يختزل الحالة السياسية والثقافية الفلسطينية، ويضعها ضمن إطار الكفاح من أجل الاستمرار، والكفاح خلال لحظات الموت أيضاً. خلال عام 2021، استمرّت الحالة السياسية المشتعلة في الأراضي الفلسطينية، وهي كالعادة تُلقي بظلالها على الحالة الثقافية والاجتماعية للإنسان الفلسطيني. ازدادت الصعوبات في وجه الإنسان منتجةً تركيبة «بازل» معقدة. وعند التعبير عنها فنيّاً، يكون الأمر شديد الخصوصية، يحمل بُعداً مغايراً عمّا يعيشه أي إنسان في العالم. فالفن يهزم الحرب، بينما لا تستطيع الحرب هزيمته مهما فعلت. لكن في 2021 كما سابقه، واقع جديد فرضه انتشار فيروس كورونا في العالم، وقد شهد مزيداً من الانتشار في فلسطين، ما أدّى إلى توقّف النشاط الثقافي لوقت طويل، ممثلًا حالة التقاطع بين مأساتَين هما الحرب على غزة في أيار (مايو) الماضي، والجائحة.
أصدر غسان زقطان مجموعته «غرباء بمعاطف خفيفة»

ورغم هذا الحصار، إلا أنّ محطات مضيئة شهدتها فلسطين في 2021. أدرجت منظمة اليونسكو «فن التطريز في فلسطين: الممارسات والمهارات والعادات» على لائحتها للتراث الثقافي غير المادي.. وبالرغم من محدودية الحركة الثقافية الفلسطينية في عام 2021، ونقص التمويل اللازم لتنميتها، إلا أنّها بقيت معبّرة عن ذاتها بالمزيد من الإصدارات الأدبية. هكذا، أصدرت الكاتبة الفلسطينية قمر عبد الرحمن روايتها «كوفيد الأحلام» التي جسّدت صراعاً يدور حول التغير الاجتماعي الذي أحدثه كوفيد في فلسطين، من خلال منحنيات مختلفة للشخصيات، عبّرت من خلالها الكاتبة عن الأثر السيء للجائحة في حياة الفلسطينيّين.
شعرياً، أصدر الشاعر المكرّس غسان زقطان مجموعته «غرباء بمعاطف خفيفة» وقدم من خلالها العديد من الالتقاطات الشعرية الناضجة، التي جسّدت المشهد السياسي والاجتماعي الفلسطيني، وثقافة الإنسان المختلطة بنكهة الصراع مع الوجود والحرب المستمرة. وأظهرت المجموعة أصالة الوجود الفلسطيني على الأرض الفلسطينيّة، بما تحمله من جراحات متشعّبة.
كما قدّم الشاعر الفلسطيني جمعة الرفاعي، مشاهد شعرية حداثية في إصداره «إذ رأى ناراً»، معبّراً عن الحالة الصوفية للإنسان في التدرّج مع الحقيقة، وطريقته الخاصة في اكتشاف الأشياء من حوله، واكتشاف ذاته أيضاً. وفي غزة، نشر ناصر رباح مجموعته «مرثية لطائر الحناء» التي قدم من خلالها رحلة تعبيرية تصوّر المشهد الغزي وتمازجه الصارخ بالحرب، وحالة التحدي التي يتلبّسها الغزي في إثبات وجوده، مهما اعترضت الحياة طريقه. وصدر للشاعرة أحلام بشارات مجموعة شعرية بعنوان «اسم الطائر»، وكذلك مجموعة للشاعرة مايا أبو الحيّات بعنوان «كتاب الخوف». وأصدرت الزميلة تغريد عبد العال مجموعتها الشعرية «العشب بين طريقين»، الفائزة بـ «جائزة القطان للكاتب الشاب».
وفي طريقة أخرى للتواجد الثقافي، صدر العدد الثامن عشر لمجلة 28 رقمياً بعد توقّف دام شهوراً. تحوّل حداثي في سياسة المجلة التي اعتادت تقديم جسدها الثقافي بشكل ورقي. وفي مقدّمة العدد، تم التلميح من قبل رئاسة تحرير المجلة إلى أنّ الإصدار الجديد يُختزل بمفهوم الصمود، ورغبة المثقّف الغزّي في الاستمرار والتواجد، رغم كلّ الظروف الصعبة التي تجعل من تسلّق الحياة بمفرداتها ومفاهيمها وأحداثها الواقعية أمراً أشبه بالمعجزة. وتناول العدد المنطقة الشائكة لحرية الإنسان في حياة ممتلئة بالحصار والمنع، والحدود التي تفتح بمواعيد محددة، وفق المزاج السياسي المحيط بالقطاع، من جانب الاحتلال والدول الشقيقة لفلسطين. وقد جاء العدد بعد رحلة مداولات ولقاءات بين الشباب المثقّف، استمرّت لمدة أربعة أشهر. كما قدّمت «28» العديد من الأنشطة الثقافية عبر «غاليري 28».
برز في رام الله «معرض الكتاب الفلسطيني» الذي جاء في ذكرى رحيل المفكّر والشاعر عبد اللطيف عقل. إذ تم تقديم الكتاب بثمن زهيد للقارئ، كنوع من التشجيع على القراءة. وتخلّلت المهرجان، فعاليّات أدبية عدة من ضمنها توقيع الكتب، وكذلك العديد من الفعاليات النقاشية لجهد عبد اللطيف عقل، والرسام والفنان التشكيلي الشهيد ناجي العلي، والكاتب الشهيد غسان كنفاني، وغيرهم من المبدعين. واستمرت فعاليات المعرض على مدار أسبوع كامل، احتضنتها «مكتبة دار الرعاة».
ويأتي نمط آخر من هزّ الشراع، لتستمر الحركة الفنية والثقافية في غزة، بتنفيذ مشروع الإقامات الفنية المقدمة من «محترف شبابيك الفني» (تمويل آفاق) الذي يقدم إقامات فنية للفنانين المعاصرين في غزة. المشروع برنامج مواز يتم تقديمه لدعم الفنانين الغزيّين، نظراً إلى صعوبة حصولهم على منح إقامات فنية في الدول المختلفة، كما هو متاح للفنانين في معظم دول العالم. هذا التعويض الباهت، يمثل للفنان التشكيلي الغزّي، فرصةً لتجربة جديدة. إلى جانب ذلك، أقيمت العديد من المعارض التشكيلية أبرزها معرض محمود الحاج «402 من الرمادي». قدّم التشكيلي هنا أفكاراً معاصرة حول قيمة الصورة الفنية غير الملونة، وإشكالية غياب اللّون في الحياة. مقاربات وإسقاطات مدروسة من قبل الحاج، لنقل الواقع الذي يحياه الإنسان في غزة. وتم تنظيم معرض فني آخر لمحمد أبو سل في قطاع غزة بعنوان «منتجات بشعة لا تفي بحقوقكم».
ونظم المعهد الفرنسي في غزة فعالية «نوفمبر الرقمي» التي سلّطت الضوء على مشروع «أدرج العنوان» الذي اهتم بإنتاج قصص كوميكس متحرّكة، رقمياً وورقياً، لعدد من الفنانين الفلسطينيّين، وكاتب سيناريو، من غزة ورام الله والشتات، التقوا الكترونياً، بالتعاون مع مدرّبين من استوديو إنتاج فرنسي، لإنجاز القصص. وتخلّلت الفعالية أمسية شعرية، بمرافقة رسومات رقمية تم تنفيذها أمام الجمهور.
حالة مستعصية للعمل الثقافي الفلسطيني، تجسّدت في تعاظم الأزمات السياسية والأمنية، لكنها فلسفة الحياة في اختراق الموت، والظهور كما طائر العنقاء من بين الرماد الكثيف، هذا الاختصار الذي تقدّمه فلسطين بمواصلتها الكفاح الثقافي للإنسان مع الوجود، وبأقل الإمكانات الممكنة.