كنا نتوقّع أن تكون مسرحية زياد عيتاني «ست الدنيا» مدفوعةً بمخاوف داخلية، عاشها الفنان في المرحلة الأخيرة من حياته. لكنها أتت استجابةً لتحوّل سياسي واقتصادي أوسع نطاقاً. مونودراما «ست الدنيا» (تمثيل: زياد عيتاني ــ كتابة: خالد صبيح، زياد عيتاني وهشام جابر ـــ إخراج: هشام جابر)، عادت بنا إلى بيروت، وإلى ما شهدته من تغييرات سياسية، وديموغرافية، وسوسيولوجية. المدينة التي كانت مليئة بصخب الشوارع، وحكايا المقاهي، ومآسي الحروب وصراعاتها ومحاورها، نلمس وجهها الآخر من خلال سرديات الستّ «أميرة» التي تقصّ علينا حكاية بيروت... حكاية «ستّ الدنيا». تفعل ذلك بشكل ينتقد هياكل الثروة، والسلطة الأبوية، والمنظومة السياسية، والمجتمع المتشرب للعادات الرجعيّة، والنظم البطريركية السائدة، من جهة، ويرسّخ تجربة التمرّد والحب للمرأة من جهة أخرى. المسرحية، أشبه ببيوغرافيا للمدينة، بكل تناقضاتها، وازدواجيتها، وتاريخها المشتّت. عالم صغير مقتبس عن قصة حقيقية، لسيدة بيروتية تدعى «سلوى»، امتهنت الحرية بأوجهٍ مختلفة. في هذه المسرحية، تُسلّي «أميرة» وحدتها في بيتها، في منطقة رأس بيروت، مستعيدةً شريط حياة يمتدّ على أكثر من ثمانين عاماً، ثم تستحضر أبطال حياتها واحداً واحداً، في محاكمة متأخّرة لهم، وللوجه الآخر لما يسمّيه كثيرون الزمن الجميل. حبكة المسرحية كلاسيكية (بداية، ذروة، ونهاية)، تعكس عن كثب، قصة المدينة التي أفل نجمها مع بداية الحرب الأهلية عام 1975، حين بدأت الشظايا تنهش بجسدها، وفكرها، وإيديولوجيات سكانها. أميرة، الفتاة الصغيرة، عُقد قرانها، من رجل أربعيني، قبل أن تبلغ، وفق أسس مجتمعية ذكورية، تستند إلى مقولات شعبية رجعيّة ترد في النص المسرحي، من قبيل: «رجال بالبيت ولا شهادة عالحيط». كان المجتمع البيروتي، على سبيل المثال لا الحصر، كما مجتمعات أخرى، أشبه بمسلخ للفتيات. في النص أيضاً، تتفاخر الست أميرة، بتهكّم، بقوة أبيها، في «السمسرة». تستذكر أمجاده في قطع الكهرباء عن المستأجرين، ورميهم خارج غرف سكنهم. لعلّ استحضار هذه الحادثة يأتي لتذكير الجمهور البيروتي بما عاشته المدينة جراء ممارسات «الحريرية السياسية»، التي هدمت هوية بيروت، وطردت السكان من أملاكهم. قد يحق لأي كان، تقديم مقاربات مماثلة، بخاصة أن بيروت هي محور العرض. لكن الجمهور البيروتي، يسترسل في الضحك على ممارسات النظام الأمني السوري، وحوادث «البوريفاج» التي ما زالت حاضرة في ذهنه، والنقد الموجّه للـ «جنرال» ميشال عون، وحادثة القصر الجمهوري عام 1990، أكثر من أي شيء آخر في العرض.
حبكة كلاسيكية تعكس قصة المدينة التي أفل نجمها مع بداية الحرب الأهلية عام 1975


بالعودة إلى الحبكة، تستحضر «أميرة» زيارتها لبساتين الحمضيات في صيدا بطريقة مفعمة بالأحاسيس. في هذا البساتين، لم يحدّها أي سقف، أو جدار. يدفعها شعور الحرية هذا، إلى طلب الطلاق من زوجها الأربعيني. صورة تعكس خيال الكاتب الغني، وقدرته على استحضار معاني كسر القيود، في وجه السلطة الزوجية. تكسر «ستّ الدنيا» إذاً، التابوهات الاجتماعية التي رافقت تلك الحقبة. مفاهيم يتم طرحها، تترافق مع حبكة فكاهية، تحاكي علاقة «الحماة» مع «الكنة»، والزوج مع الزوجة، والأب مع ابنته. إضافة إلى هذين الخطين، يبرز البعد السياسي بشكل جلي في هذه المسرحية، من خلال سرد ممارسات جماعات «فتح»، «ودعم القدس»، و«المرابطون»، ونقاط تواجدهم، ونقاط الصراع المذهبي، كالـ «الهوليدي إن».
في ما يخص التمثيل والأداء، لعله من المفيد العودة إلى الكاتب المسرحي المجري لابوس أيجري (1888- 1967) وكتابه «فن الكتابة المسرحية»، الذي يتطرق إلى أنواع الشخصيات المسرحية، وأبعادها الثلاثة التي تتمثّل في: البعد الخارجي، المسؤول عن التكوين الجسماني والملامح. البعد الاجتماعي، المسؤول عن الانتماء الطبقي المجتمعي، والثقافي، والديني. وهناك البعد النفسي، المسؤول عن المعايير الأخلاقية وأهداف الشخصية وميولها. نقول بأنّ «أميرة»، الشخصية المحورية في المسرحية، بدت أقل نضجاً على المستويات كافة، تحديداً في البعد الخارجي. كان جسد الممثل زياد عيتاني، مقيداً إلى حد كبير، ولم يكن عفوياً في تنقلاته. أكثر من ذلك، فلنعد إلى الإطلالة الأولى للست «أميرة» على المسرح. تطل بلهجة بيروتية محببة ولطيفة، وبقميص أحمر، وشعر أشقر. لقد ظهرت بمظهر الإنسان الساذج، علماً أنها ليست على هذا النحو. أزياء تنمّط أنوثة المرأة، بشكل يرتطم مع الحرية التي تنادي بها طوال فترة حياتها. فهذه السيدة التي كسرت القيود، ليس بالضرورة تقديمها بهذه الأزياء! أما الشخصيات الأخرى التي يجسدها زياد، مثل الزوج، الأب، الداية... فأتت نمطية، لم تحمل أي تركيب نفسي واجتماعي. إلاَّ أنها شخصيات رمزية، جسدت خصوصية المجتمع البيروتي. يمكن القول، بأنَّ كل الشخصيات، التي جسدها زياد، بدون استثناء، لم تحمل أي كثافة إنسانية للشخصية المسرحية. أما بالحديث عن «الميزانسين» (mise en scène)، فيأخذ تجسيد «فعل الحيرة» في بداية المسرحية ونهايتها، حيزاً ووقتاً كبيرين، من خلال حركة الذهاب والإياب، للست «أميرة»، من أقصى يمين الخشبة، إلى أقصى يسارها، مرددة «ما ناقصني شيه». هذه الحركة المسرحية لا تحمل أي معانٍ ولا دلالة، يمكن للمشاهد أن يستنبط من خلالها، أبعاد الشخصية الحيّة. باختصار، أتى الميزانسين، لتعبئة الخشبة، من دون دلالات عميقة. أكثر من ذلك، تجلس «أميرة» طوال فترة العرض، تقريباً، أمام مرآتها، التي تشكل ملاذاً آمناً لها. تروح تسرد حكايا الشوارع، وأسواق الخضار، والمساجد والمآذن، والمقاهي والنراجيل. تنتقل بعدها إلى المطبخ، وتفرم بصل الحياة الزوجية. يا للمباشرة في الخطاب! التنقل في الفضاء المسرحي، أتى كتفسير مباشر لمضمون العمل المسرحي. فالمرآة التي تعكس تقدُّم الست «أميرة» في العمر، تعكس تعب «ست الدنيا» في صيغة تحاكي التبدلات التي طالت المدينة، والتغييرات التي طرأت عليها.


الأهم من ذلك كله أنّه للأسف، لا يزال «الإيروتيك»، حتى يومنا هذا، مصدر ضحك للجمهور. نكتة الجنس حاضرة بقوة، ومصدر ترفيه للجمهور. هذا إن دل على شيء، إنما يدل على سطحية المتلقّي. مع ذلك، سنرى في هذه المسرحية، الوجه المخفي لبيروت وزمنها الجميل وأيامها الحلوة والقاسية، وبرهان حقيقة امتداد تبعات التاريخ، على يومنا المعاصر. إلا أنّ التوجه العام للتصريحات التي يطلقها النص، لا تنطبق على تأسيس مرحلة جديدة، وكيفية التعامل مع مخلّفات الحرب. هل علينا فقط استنباط المعاني والدلالات التي تنتقد ممارسات السلطة السياسية ذاتها؟ كيف نوجه الجمهور لطرح أسئلة نقدية عن واقعه المعاش؟ يبدو أن عيتاني أراد فقط نكء الجراح، ليثبت أن ما نعانيه اليوم، هو امتداد لما عانيناه من قبل، من دون أي رؤية مستقبلية واضحة. والبرهان على ذلك، أن الشكل المسرحي كان كلاسيكياً، رغم استخدام التقنيات الحديثة في المسرح كالشرائط المصورة، أو شاشة عرض الفيديو والسينما. لكنه، لم يندرج في إطار مسرح بريخت الملحمي، أو مسرح التسييس، الذي اشتهر به عربياً المسرحي السوري سعد الله ونوس، وكان هدفه تعرية الهزائم، وتنمية وعي المتفرج بواقعه الاجتماعي، ودفعه للتساؤل والعمل. ما هكذا يكون المسرح يا زياد. مسرح المواجهة مع الطبقة الحاكمة وحيتان المال، عليه أن يكون أكثر اندفاعاً وجذريةً.

«ستّ الدنيا»: 6، 13، 18، 19، 25 و26 كانون الثاني (يناير) ــ «مترو المدينة» (الحمرا) ـ للاستعلام: 76/309363