لطالما داعبت فكرة الخلود مخيّلة البشر، والأساطير القديمة شاهد على حلم الإنسان بقهر الموت والتنعّم بالعيش الرغيد في الفردوس الأبدي. من منّا لم يسمع بملحمة جلجامش، ملك أوروك السومري الذي بحث عبثاً عن عشبة الخلود من أجل إحياء صديقه الحميم أنيكدو واكتشاف سر الحياة الأبدية! ومن منّا لم يقرأ أسطورة ولادة أخيل الذي مسحته أمه ثيتس بطعام الآلهة الأمبروسا وغمرته بمياه نهر ستيكس، فكاد أن يكون خالداً لولا كعب رجله الذي لم تصل إليه المياه! جاءت الأديان السماوية بعد ذلك، لتعزّز فكرة الخلود حين وعدت «الأبرار الذين يلتزمون بتعاليم الله» بالحياة الأبدية في النعيم، بينما حذّرت «الأشرار الذين يعيثون فساداً» في الأرض من أنهم سوف يُعَذبون في الجحيم.لكن يبدو أن حلم العيش مطولاً وبصحة جيّدة، لم يعد أضغاث أحلام! مع التطور العلمي الكبير في ميدان العلوم الطبيعية وعلم الجينات والثورة التكنولوجية، لم يعد البقاء على قيد الحياة يتطلّب أعمالاً بطولية أو التزاماً بالقيم الأخلاقية. قريباً جداً كما يقول راي كورزويل، مدير القسم الهندسي في شركة غوغل أكبر الشركات الرأسمالية في العالم، سوف يتمكن الإنسان من تجاوز حدوده البيولوجية متوقّعاً اختراع روبوتات فائقة الصغر والدقة يتم زرعها في الدماغ والجسد البشري لتحسين وظائف الذاكرة ومهام الجسم وإصلاح أخطاء الحمض النووي، ما يؤدي إلى إطالة عمر الإنسان.
دايفيد كروفبليت ـــ «اجتياح الروبوت» (2020)

هذا الانتقال الراديكالي من الإنسان العادي الذي نعرفه إلى إنسان جديد (سيبورغ) مهجّن نصف إنسان/ نصف آلة، يبدو مفزعاً، ويطرح تساؤلات أخلاقية وفلسفية عديدة حول مفهومنا للإنسانية وموقعها في الوجود. بعدما كان الإنسان مركز الكون وسيّد الطبيعة ومالكها كما يقول الفيلسوف ديكارت، بدأ يخسر اعتباره رويداً رويداً لصالح مفاهيم جديدة. منذ نهاية القرن الثامن عشر وجروح احترام الذات الإنسانية تتراكم: خسر الإنسان الحديث مكانته المركزية في الكون حين علم أنّ أرضه العزيزة تدور حول الشمس لا العكس. وفقد بريقه عندما أخبره داروين أن أصله «يتحدّر من القرد»، وأصبح فاقداً للوعي وغير مسؤول عن أعمق أفكاره مع نظريّات فرويد النفسية. بعد ذلك، توالت الكوارث على الإنسانية وتبيّن عجز التطور عن تحقيق سعادة البشرية، وأخفقت النظريات الماركسية الاجتماعية في بناء عالم أكثر عدالةً. تسبّبت الكوارث المناخية الناجمة عن التلوث في انقراض فصائل مختلفة من النباتات والحيوانات. كل هذه الويلات جعلت أفكار الحداثة موضع ارتياب، وأعادت التشكيك بمركزية الإنسان ودوره في العالم. أما اللحظة الحاسمة التي أحدثت أزمة معرفية وأخلاقية كبيرة، فكانت بدون شك الحرب العالمية الثانية حين واجهت الإنسانية برمّتها احتمال فنائها الجماعي، وأدركت أنها أصبحت تمتلك السلاح النووي الفتّاك القادر على إنهاء حياة الملايين من البشر في ثوان معدودة وبدون رادع.
بناءً على ذلك، أعلن فلاسفة ما بعد الحداثة انتهاء عصر السرديات الكبرى ونهاية تيّار الإنسانوية الذي ازدهر في عصر التنوير. فلا عجب أن نسمع الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو يتنبّأ بموت الانسان الذي سيختفي «مثل وجه رُسِم في الرمال على شاطئ البحر». أما الفيلسوف الألماني بيتر سلوتردايك المتأثّر بمارتن هايدغر، فيقول إنّه آن الأوان للتفكير في ما بعد الإنسانية (le posthumanisme) ودعا إلى قيامة بيولوجية تتضافر خلالها جهود البيوتكنولوجيا والعلم من أجل ضمان استمرارية الإنسان في المستقبل، عن طريق اعتماد ما توفّره التقنيات الحديثة، خصوصاً علم الهندسة الجينية. في المقابل، عارض الفيلسوف يورغن هابرماس موقف سلوتردايك ورفض فكرة الاستنساخ بشدة، معتبراً أنّ مشروع الحداثة لم يمت وأن المُثل العليا التي دعا إليها عصر التنوير لم تكتمل بعد.
ويجري الحديث كثيراً حالياً عن «الإنسانية العابرة» transhumanisme. وهو مفهوم حديث نسبياً ظهر للمرة الأولى في دراسة لعالم الجينات جوليان هكسلي عام 1957. و«الإنسانية العابرة» مشروع إيديولوجي مستوحى من أفكار الفيلسوف نيتشه، يهتم بتحسين النسل الإنساني بواسطة التكنولوجيا من أجل خلق كائن متفوّق لا يشعر بالألم والمعاناة، ويتجاوز القدرات البشرية المعتادة. يهدف هذا المشروع بشكل أساسي إلى إطالة عمر الإنسان ووضع حدّ للموت البيولوجي. أما مشروع ما بعد الإنسانية (Le posthumanisme) فهو تيّار فكري فلسفي، وُلِد أول مرة كمصطلح في مقال للمفكر الأميركي من أصل مصري إيهاب حسن عام 1977، وتختلف تعريفاته حالياً، لكنه يقوم على فكرة أساسية هي أنّ الإنسانية مفهوم متغيّر في طور التشكيل والتطوير الدائم، وأنه يجب علينا أن نتخطى وجهة النظر التي تعتبر أنّ الإنسان مخلوق استثنائي ونبدأ بالاهتمام بالكائنات الأخرى حولنا.
اهتمت العديد من الأعمال الأدبية بمفاهيم «الإنسانية العابرة» وما بعد الإنسانية وعالجتها روائياً. في الأدب الفرنسي، هناك حوالى ثلاثين رواية تتناول هذا الموضوع، لعل أبرزها روايات ميشال ويلبيك كـ «احتمال جزيرة» و«الجزيئات الأساسية» ورواية «شفافية» لمارك دوغين. تقدم معظم هذه الروايات صورة سوداوية عن المستقبل البشري وتتشابه مع تلك التي تنتمي لفئة الخيال العلمي من حيث اختيار الثيمات كالاستنساخ والتعديل الجيني، وسيطرة الآلات، لكن لديها مقاصد مختلفة لأنها ترغب بالتأثير على إدراك المجتمع لتصوّرات ما بعد الإنسانية وتوجيه النقد اللاذع لهذا المشروع والتحذير من مخاطره.
تقدّم معظم هذه الروايات صورة سوداوية عن المستقبل البشري


ترسم معظم هذه الروايات عالماً مدمّراً في حالة اندثار أو ما بعد اندثاره بقليل وتستعير أفكاراً عديدة من ديستوبيا جورج أورويل «1984» ورواية ألدوس هكسلي «العالم الطريف»، ورواية «نحن» للكاتب يفغيني زامياتين التي تنتقد النظام الستاليني. تعكس هذه النصوص الأدبية صورة مجتمعات يسود فيها نظام توتاليتاري، حيث تلتهم التكنولوجيا والخوارزميات الألفة الإنسانية ويتجرّد الكائن البشري من إنسانيّته ليتحوّل نموذجاً موحّداً وكائناً بلا روح أو مجرد برنامج للمعلومات الجينية.
يقصّ علينا ميشال ويلبيك في روايته «احتمال جزيرة» (2005) حكاية ممثّل كوميدي يدعى دانيال ينضم إلى طائفة الألوهيم التي تسعى إلى خلق جنس مستقبلي وتروّج لطروحات شبيهة بأفكار النازية عن تحسين النسل والاصطفاء. يمنح الانتماء لهذه الطائفة الأعضاء إمكانية التخلّي عن جسدهم المتقدّم في السن ونقل شيفرتهم الجينيّة إلى كائن حيّ مستنسخ. يعيش هؤلاء المستنسخون حياة عزلة أشبه بسجن خانق، ولا يعرفون شعور الألم والمتعة، ويتغذّون فقط على الأملاح المعدنية، وهم يقضون جلّ أوقاتهم في التأمّل وقراءة قصّة حياة سلفهم دانيال والتعليق عليها. إنّ وجودهم الزاهد هذا تُمليه عليهم توصيات الأخت الكبرى (تذكرنا بصورة الاخ الأكبر في رواية أورويل) في انتظار ظهور المخلص المستقبلي الذي سيمنحهم الخلود الأبدي.
من ناحية أخرى، تنقلنا رواية «شفافية» (2019) إلى عام 2060 حيث شركة غوغل تتقمّص دور الآلهة وتسيطر على العالم وتتحكّم بكل مفاصله ويخضع لها الجميع أفراداً وحكومات. في هذا العالم المستقبلي الكئيب الذي يُعاني بشدّة من الاحتباس الحراري والتغيّرات المناخية، لا يستطيع الناس الخروج من منازلهم بسبب ارتفاع نسبة التلوّث ويتواصلون الكترونياً فقط. في المقابل، تسعى شركة ناشئة لإنقاذ الإنسانية المهدّدة بفعل ارتفاع الحرارة والتلوّث من خلال برنامج يجمع معلومات دقيقة جداً عن مستخدمي شبكة الإنترنت بهدف خلق نسخة أثيرية عنهم تسمح لهم بالحياة بعد فناء الجسد البشري وتأمين انتقال الروح إلى الجسد الإلكتروني.
أما في الأدب الإنكليزي، فقد تناولت العديد من الروايات موضوع ما بعد الإنسانية منها ديستوبيا «اوريكس و كريك» (2003) للكاتبة الموهوبة مارغريت أتوود. تعالج هذه الرواية ثيمة نهاية العالم وقدرة الإنسان على تخطّي المحنة وبناء مخلوق ما بعد إنساني متفوّق. تدور أحداث الرواية حول جائحة أدت إلى إبادة البشرية والقضاء على الحضارة الإنسانية، فلم يتبقَّ على قيد الحياة سوى رجل واحد يدعى جيمي يجاهد للبقاء في بيئة صعبة للغاية. يروي لنا جيمي الأحداث التي أدّت إلى حصول الكارثة التي بدأت عندما قرّر صديقه العالم العبقري كريك إطلاق العنان لفيروس فتاك أُنتج في المختبر بهدف التخلّص من البشر الذين يدمّرون الكوكب، واستبدالهم بمخلوقات هجينة لديها القدرة على العيش في وئام مع الطبيعة. ويجد الناجي الوحيد جيمي نفسه مسؤولاً عن هذه الكائنات الجديدة ومضطراً لإرشادها في العالم ما بعد الإنساني قبل أن ينهار جسدياً ويموت هو الآخر.
وهناك أيضاً رواية «لا تدعني أذهب أبداً» (2005) للكاتب البريطاني كازو إيشيغيرو، وهي قصة إنسانية عميقة عن كائنات بشرية مستنسخة. تسرد الأحداث بطلة الرواية كاثي التي تبحث عن هويتها وأصولها. تحاول كاثي إعطاء معنى لحياتها وتؤمن بقدرتها على الهروب من حالتها المستنسخة، لكن ذلك مستحيل. ففي هذا العالم الظالم، يُحكم على الكائنات المستنسخة بالموت منذ لحظة ولادتها لأنه تم خلقها فقط بغرض التبرّع بأعضائها. وفي الخلفية، تظهر صورة المجتمع الذي يستغلّ هذه الكائنات تحت مسميّات مختلفة، ويرفض الاعتراف بأنها تمتلك أرواحاً لتجنب مناقشة الاعتبارات الأخلاقية. هكذا يعيش المستنسخون محبوسين في غَيريَتهم وتحت سيطرة النظام. رغم معرفتهم بنهايتهم الوخيمة، لا يتمرّد المستنسخون على الإطلاق ويتقبلون مصيرهم، بينما يجد القارئ نفسه يتساءل عن ماهيّة الإنسان والبُعد الأخلاقي لعمليات الاستنساخ.
على ناصية حقبة جديدة يسيطر فيها الذكاء الاصطناعي على العالم، نجد بأنَّ فكرة الخلود مهدّدة بأن تتحوّل لقيمة استهلاكية تقدّمها الشركات الرأسمالية الكبرى لمن يمتلك المال والنفوذ. لذلك نحن الآن أحوج ما نكون إلى إعادة التفكير في مفهومنا عن الكائن الإنساني واستكشاف المسار الذي يُرسِّخ ما يميزه عن الآلات والروبوتات. من المؤكّد أنَّ الذكاء الاصطناعي في العقود المقبلة، سيستمر في خدمة الإنسان، وقد يتفوّق عليه على الأرجح. ولكن يجب أن نحارب لصَون الخصائص التي تجعله فريداً ومميزاً كالفن والشعر والموسيقى وروح النكتة والروحانية، ولا مانع على الإطلاق من تعزيز أدمغتنا إذا كانت ستقودنا في نهاية المطاف إلى الإيثار والإحسان والإبداع والحكمة.