يبني المخرج الأميركي آدم ماكاي فيلمه الجديد «لا تنظر إلى الأعلى» (نتفليكس) على أساس متلازمة كاساندرا (الأسطورة الإغريقيّة عن الحسناء التي منحها الإله أبولو القدرة على التنبّؤ بالمستقبل، قبل أن يلعنها إلى الأبد بأن لا يصدّق أحد من البشر نبوءاتها) كمحاولة مسيّسة ليبراليّة النزعة لنقد تعامل النظام الأميركي بنسخته الترامبيّة اليمينية مع أزمة المناخ المتعاظمة. كيت ديبياسكي، كاساندرا الأميركية ذات الشعر الأحمر والحلقة في الأنف (جينيفر لورانس) تلميذة دكتوراه في علوم الفلك، تلتقط صوراً عبر تليسكوب فضائي لما يبدو أنّه مذنّب ضخم يتجه حثيثاً للارتطام بالأرض والقضاء على الحياة فيها. لكن مع رئيسها في العمل البروفيسور راندال ميندي (ليوناردو دي كابريو)، سرعان ما يصابان بالإحباط عندما يجدان أن لا أحد يشاركهما القلق إزاء المذنّب «قاتل الكوكب»: لا الإعلاميّين البلاستيكيين على البرنامج التلفزيوني اليومي (على نسق «صباح الخير يا أميركا»)، ولا الصحافة المعنيّة بأعداد القرّاء (نسخة محورة من «نيويورك تايمز»)، ولا البيت الأبيض بقيادة الرئيسة الترامبية (ميريل ستريب)، وبالتأكيد ليس الشعب الأميركي الغارق حتى أذنيه في التفاهات. ورغم أن استعارة رمز المذنّب (الحدث الطبيعي المحض) للحديث عن أزمة المناخ ــــ التي هي بالضرورة نتاج تراكمي للرأسمالية حيث النظام الأميركي في قلبها ويهملها الفيلم تماماً ـــ غير موفق بالنّظر إلى تمركز الحدث الفلكي في نقطة معينة من الزمان والمكان (ستة أشهر وفق الفيلم)، مقابل مسألة المناخ التي تأخذ عقوداً طويلة قبل لمس الدمار الذي ستجلبه للكوكب، فإن ماكاي يعدنا من حيث المبدأ بمعالجة جانبين مهمّين: حقيقة وجود أزمة تهدّد الوجود الإنساني برمّته، والمأساة التاريخية للنخب الحاكمة في عجزها المتكرّر منذ الحضارات الأولى عن التصرّف لمصلحة الأكثريّة ولو كان وجودها نفسه، كنخبة، مهدّداً بالزوال (أنظر كتاب جوزيف تينتر المرجعي «سقوط المجتمعات المعقدّة» The Collapse of Complex Societies). لكن مقاربة ماكاي للأزمة ولسلوك النخبة، في «لا تنظر إلى الأعلى» جاءت مجلّلة بكل التسطيح الهوليوودي المتوقّع: في ضعف الفكرة النظرية حول طبيعة الأزمة (المناخيّة)، وسخافة الهجاء السياسي للنظام الأميركي، وفي تلك الفوقيّة المنفّرة – وهي لازمة لثقافة النخبة الأميركية – تجاه الكتل الشعبيّة.
أقلّ قراءة حول أزمة المناخ مهما اختلف مرجعها الأيديولوجي، تُشير بشكل أو آخر إلى دور الدول الرأسماليّة الكبرى المركزي في التسبّب بالانبعاثات الكربونيّة والتدمير الممنهج لبيئة الكوكب (بحسب التقديرات 70 في المئة من الانبعاثات يتسبّب بها أقل من 20 في المئة من سكان الكوكب بما في ذلك ما يقرب من 7 في المئة تطلقها العمليّات اليومية للجيش الأميركي أي أكثر مما تطلقه الهند بسكانها الـ 1.4 مليار). ماكاي يهمل ذلك بالمطلق، ويريدنا أن ننظر إلى الأعلى، بعيداً عن واشنطن، إلى السماء حيث أزمة مفتعلة لم يتسبّب بها أحد من الرأسماليّين القتلة ستداهمنا كالقدر المحتّم.
ضعف الفكرة النظرية، وسخافة الهجاء السياسي للنظام الأميركي، وفوقية تجاه الكتل الشعبية


ماكاي، الذي يصطفّ سياسياً مع الجناح الليبرالي في نخبة واشنطن (الأقرب للحزب الديموقراطي) في مواجهة الجناح اليمين المحافظ (الحزب الجمهوري)، اختار أيضاً أن يوظّف الهجاء السياسي في الفيلم ضدّ الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب تحديداً، كأنّ المتسبب بالأزمة سوء الإدارة الجمهوريّة وشعبويّة الرئيس وطاقمه، لا نخبة واشنطن الإمبراطوريّة بكليتها، لا فرق بين ديموقراطي أو جمهوري، وسلوكها الإمبريالي عبر تعاقب الإدارات منذ وطئت قدما اللّعين كولومبوس أرض العالم «الجديد».
وحتى لو وضعنا الجانب النظري لفكرة الفيلم جانباً، فإن صيغة التعامل الموغلة بالفوقيّة والاستعلاء تجاه الكتلة الهلاميّة المسماة الشعب الأميركي في «لا تنظر إلى الأعلى» بدت شديدة المباشرة ومحمّلة باحتقار، ليس غريباً بالطبع في نظرة النخبة الأميركية البيضاء للآخرين سواء في الولايات المتحدة أو خارجها. فالجمهور المحليّ وفق ماكاي قطعان من البشر الهائمين الذين يسهل التلاعب بهم عبر الميديا ووسائل التواصل الاجتماعي، ويسقطون في الثنائيّات المختلقة (أنظر للأعلى، لا تنظر للأعلى)، ويؤمنون بالخزعبلات الدينية والشعارات السياسيّة. وعندما يثورون، يمارسون فوضى عبثيّة ضد بعضهم أقصاها تحطيم زجاج (المقاهي أو المصارف). أما بقيّة الكوكب (روسيا والصين والهند تحديداً)، فتفشل قبل أن تبدأ بالتعامل مع المُذَنّب (لا يذكر الأوروبيّين كجزء من هذا الفشل بوصفهم بيضاً مثلنا نحن الأميركيين). والخلاصة أنّ أمل البشريّة الوحيد وخلاصها يظلّ رهن نجاح النظام الأميركي حصراً في إدارة الأزمة، وإلا فالكارثة.
خطيئة ماكاي التي لن تغتفر في «لا تنظر إلى الأعلى» حتى بالنسبة للجمهور غير المعني بالخلفية النظرية للفيلم، كانت سماجة السخرية المستخدمة والمحاولات المتكررة للإضحاك بشكل مفتعل ومزعج، إلى درجة أن عديدين سيصل بهم الحال بعد مرور نصف الفيلم لتمنّي سقوط المذنّب كي تنتهي هذه المهزلة. وبدلاً من أن يسهم حشد النجوم الكبار الذين استدعاهم مكاي في دعم الفيلم، أصبحوا عبئاً عليه بسبب السيناريو المتشنّج، وضحالة الطرح وافتعال انتقالات الكاميرا معاً.
النّقاد متفقون في غالبهم على أن «لا تنظر إلى الأعلى» سيحتل في سيرة ماكاي الفنيّة مكانة أسوأ أعماله على الإطلاق، أقلّه حتى الآن (أخرج The Big Short عام 2015 و Vice عام 2018). إنّه عمل ينتمي باقتدار إلى نوع من منتجات ثقافة النخبة الأميركية (سينما وكتب وأغان...) التي تعدّ لاستهلاك الكتل الشعبية بوصفها قطعاناً من السذّج والحمقى المحتاجة لتبسيط الأمور المعقدة كي تصلها الفكرة (على نسق أغنية البوب التي يلجأ إليها العلماء المحبطون في الفيلم لتحذير الجمهور من خطر المذنّب أو سلسلة كتب «...للحمقى» المعروفة) رغم أنّه نفسه يتناول بالسخرية جوانب من الحماقات الأميركية.
ليس التهديد للبشرية آتياً من الفضاء الخارجي، وأزمتها ليست إيلون ماسك أو دونالد ترامب كأشخاص. وسواء نظرنا إلى الأعلى أو لم ننظر، كما انقسم الأميركيون وفق آدم ماكاي، فإنّنا نبحث عن المشكلة والحلّ في المكان الخطأ. فلننظر أمامنا: إنها نخبة واشنطن، القاتلة، وإنقاذ البشرية والكوكب يمرّ اجبارياً بإسقاطها... حتى اسألوا جوليان أسانج.

Don’t Look Up
على نتفليكس