لم تكن «دار قنبز»، موجّهة يوماً للأطفال فحسب، رغم أنها خصّصت معظم كتبها، منذ تأسيسها سنة 2006، لمخاطبة هذه الفئة العمرية باللّغة العربية. تلائم مؤلّفات الدّار اللبنانية كلّ الأعمار، بتصاميمها البصرية المعاصرة التي تحوّل كلّ إصدار إلى عمل فني قائم بذاته، وهذا ما يجعها هدايا مناسبة لكلّ الأوقات. يُضاف إلى ذلك التعامل المبتكر والمرح مع اللّغة العربية، التي لطالما اقتصرت في كتب الأطفال على الوعظ والتلقين. ومثلما طالت هذه المؤلّفات كلّ الأعمار، تحجز الدار أيضاً مساحة خاصّة للبالغين.

فهذه السنة، تمثّل إصدارها الأبرز بالجزء الثاني من قصة «مدينة مجاورة للأرض» المصوّرة لجورج أبو مهيا، التي أطلقتها ضمن معرض يحوي الرسومات الأصلية في «غاليري تانيت». الأزمة الاقتصاديّة في البلاد، لم تكن ذريعة بالنسبة للدار للتهاون أو التنازل عن أي من المقاييس الجماليّة والنوعيّة المعتادة في إصدار الكتاب الذي شكّل إنتاجاً محليّاً متكاملاً في فن الكوميكس، من خلال الرسومات التفصيليّة المدهشة لأبو مهيا، وإخراج الكتاب، والخيارات الجمالية الأخرى منها نوعية الورق. هكذا كان نشر القصّة مناسبة للتذكير بإصرار الدار على الاستمرار في العمل والإنتاج في لبنان.
بكلّ الحالات، تعدّ القصة المصوّرة فرصة لرؤية المدينة بعين فانتازية مختلفة. ويأتي جزؤها الثاني الصادر أخيراً، بعد جزء أوّل صدر سنة 2011. وفيها يستكمل الفنان اللبناني رسم الجولات الكابوسية لبطله فريد الطويل في أحياء وأزقّة بيروت. بتدرّجات الحبر الأسود يبني أبو مهيا المدينة من ذاكرته البصرية التي تكاد بتفاصيلها تشبه عدسة الكاميرا فتصوّر عماراتها العشوائية، ولافتاتها، وبعض معالمها مثل مبنى شركة الكهرباء الذي يتصدّر غلاف الكتاب. من قلب هذه الواقعيّة، يخلق مناخات خياليّة قاتمة، تجعل من متاجر المدينة مستودعاً للأجنّة الميّتة، فيما تجوب أزقّتها كرنفالات للعراة. هكذا تبدو هذه الأحداث والأبعاد الغرائبية استعارة عن مآزق البلاد اليومية، في ظل فساد الحكم السياسي. الحافلة هذه المرّة لا توصل البطل فريد الطويل إلى مكتبه في شركة التأمين كما كلّ يوم، بل تدفعه لأن يخوض مغامرات عجيبة تدفع القارئ لأن يشكّ بوجوده وبوجود المكان على السواء.
تُحاكي هذه القصّة الممتعة، الكثير من حيوات سكّان المدينة، تحت وطأة الظروف القاسية، ودوّامة العمل اليومية التي تسلبهم أية بؤرة آمنة. في الجزء الأوّل من القصّة يُضيع فريد الطريق إلى منزله، يصل إليه لكنّه لا يجده. غير أنّ البحث لا يبقى محصوراً بالمنزل، بل يتحوّل إلى رحلة تنقيب ذاتيّة خصوصاً أمام ضجره وحياته الروتينية. تقنياً، يعتمد أبو مهيا في مشاهد قصّته على كادرات تولي عناية للإضاءة والظلال والحركة ضمن اجتهاد تقني لافت يجعل من القصّة شريطاً بصريّاً متنقّلاً لحياة فريد ولشخصيّات خياليّة أو أخرى مستلهمة من الواقع، منها الرّجل الثائر، والرجل الوطواط، وصديقه إميل وصاحبته قتينة. الأهم أن هذه القصّة التي تتراوح ما بين الخيالي والواقعي بطابع تهكّمي ولاذع، تحتوي على مشاهد ورسومات تشكّل لوحات فنيّة
مكتملة.