تشغل مباحث الجسد واللذة والرغبة والجنسانية حيّزاً ضئيلاً داخل التأليف العربي المعاصر مقارنة بتضخّم الخطابات المعرفية الأخرى، ولا سيّما أنّ هذا الحيف الذي تُعانيه دراسات الجسد في الفلسفة والأنثروبولوجيا والتاريخ وتمثّلاتهما في الفنون البصريّة، لا يجد مرجعيته المُتشنّجة داخل الثقافة العربيّة الإسلامية الوسيطية فحسب، وإنّما أيضاً على مستوى طبيعة الخطاب العامّي المُتداول اليوم داخل أدبيّات البحث العلمي الجامعي. فهذا الأخير يعتبر أنّ الجسد من التابوهات التي تنتمي إلى الثالوث المُحرّم إلى جانب السياسة والدين. تقزيمٌ كهذا جعل الجسد مثار غموضٍ لا داخل الثقافة العربيّة فحسب، بل حتّى داخل بعض الأنساق الفكريّة الغربية. إنّ النزعة الديكارتيّة العقلانيّة الصارمة حرّمت التفكير في الجسد ونفته من مجالات التفكير الفلسفي بإعطائها قيمة أكبر للتفكير العقلاني، وكان ذلك عاملاً كبيراً في تهميش الجسد من مجال التفكير الفلسفي وتقوقعه أكثر داخل حقل الآداب والفنون.
تركّز الباحثة على أعمال الفنّان إيغون شيلي (1890-1918) ومشروعه البصريّ التجديدي في تاريخ الفنّ العالمي

كما كان للمُؤسّسة الدينية دور سلبي منذ العهد الإقطاعي وما شهده من توطيدٍ للفكر الديني من لدن الكنيسة واستغلاله وتثمينه في المجال السياسيّ واستخدامه كسُلطة لانتهاك حريّة الجسد وتمثلاته داخل الفنّ التشكيلي، في وقتٍ ظلّت فيه الكنيسة لا تستمد شرعيتها إلا من نفسها، حيث بقيت تُمارس رقابة قاهرة وعنفاً كان له أثر بارز على الجسد داخل الصورة الفنيّة لمدّة طويلةٍ، قبل مجيء النّهضة حين دشّن الفرد أولى ثوراته في الفنّ التشكيليّ وجعل الجسد يُحلّق بعيداً في سماء الفنّ الغربي.
وفقاً لهذا الطرح المعرفي، يأتي كتاب «الجسد العاري: الأنثروبولوجيا، الاستطيقا، الجنسانية» (دار نقوش/ 2021) للباحثة التونسيّة الواعدة يسرى بلالي لتشغل هذا الحيف الذي تركه ديكارت وروّاد التفكير العقلاني داخل التفكير الفلسفي. فالكتاب يبدأ بمفاهيم فلسفية عامّة، لكنّه سرعان ما يتوغّل في الأطروحة القائمة حول الجسد وتمثّلاته داخل تجارب فنيّة عالمية مثل أوجين دولاكروا، وإيغون شيلي وغوستاف كليمت وغيرهم. لكنّها تنطلق في كتابها من ثلاث إشكاليات لا تخرج عن مقاربة التعبيرية الشيلية وفقاً لبعض نماذجها الفنيّة على شكل أسئلة تدور حول مفهوم العاري، وأصله وميكانيزماته داخل حضارات عدّة والأسباب التي جعلت هذا المفهوم حاضراً داخل أعمال تشكيليّة عالمية ومُهمّشاً ومنسيّاً من لدن الدراسات الفكريّة.
في هذا السياق، تركّز على أعمال الفنّان إيغون شيلي (1890-1918) بغية إبراز ملامحه ومشروعه البصري التجديدي في تاريخ الفنّ العالمي، وصولاً إلى طبيعة العاري الجماليّ وفيزيونوميّته داخل عدد من أعماله التشكيليّة. لكنّ مع توالي صفحات الكتاب، يكتشف القارئ أنّ يسرى بلالي تشتغل في مسارها التراكمي (لا التحليلي) على استخدام مفهومَي الاستطيقا والجنسانية، في محاولة لتوضيح أفق هذه العلاقة داخل الفنّ بالاستناد إلى مراجع فلسفية تُضيء معالم هذه العلاقة وتفتح لها أفق السؤال داخل الفنّ التشكيليّ. إنّه لمن الطريف لدى يسرى بلالي مقاربة ثنائية الجمالي/ الجنساني داخل أعمال إيغون شيلي في وقتٍ لا تتوقّف فيه الدراسات الفلسفية العربيّة على إنتاج ركام معرفة ماضويّة تتعلّق بالتراث والخطاب الديني. فقد غدت بعض الدراسات الفلسفية أشبه بمادّة فقهية تُنتج معتقدات وقوالب وأجوبة فكريّة أكثر من طرحها أسئلة حول الجسد والصورة والألم والجنون والصمت. إنّ ولوج يسرى بلالي إلى دراسة العاري في الفنّ يجعلها تبدأ من مسارب ما بعد الحداثة لتعود إلى الحداثة، إنّ بحثها الأوّل هذا، يُمثّل مقدّمة لمشروعٍ نقدي مداره الجسد بدل العقل.
بحث غني تتقاطع فيه مناهج عدّة في كتابة تمزج الفلسفي بالنقدي والصحافي


والحقيقة، فإن هذا التحوّل الذي عرفه الجسد داخل الصورة الفنيّة، لم يبقَ حبيس الأنساق الجماليّة، وإنّما تشعّب أكثر وامتدّ وَهَجُه ليدخل غمار التفكير الفلسفي ولو بشكلٍ شحيحٍ سرعان ما وجد نفسه مثار نقدٍ لاذع من لدن العقلانيّة الغربية، التي تعاملت مع جسد الإنسان بوصفه آلة ميكانيكية تتلخّص في العقل وتُنفي المشاعر والأحاسيس وكل أشكال الرغبة. أمّا في الزمن المعاصر، فسيغدو الجسد مع ميرلوبونتي وباشلار ودولوز وفوكو بمثابة براديغم تُشيّد عليه الفلسفة المعاصرة، إذ عمل الفكر الفرنسيّ (التحليل النفسي على الخصوص) على إعادة الاعتبار لمكبوتات الجسد واستيهاماته في صناعة فكرٍ فلسفيّ مُنفلتٍ من رقابة العقل ومداراته التعسّفية الجامدة من خلال الانفتاح على خزّان الجسد. وقد شكّل ذلك ثورة حقيقيةً في المجال الفلسفي خلال منتصف القرن العشرين، لأنّه جعل الفلسفة تخرج من أدراج المختبرات العلمية وتدخل في سراديب الحياة اليوميّة ومصائرها. إنّ هذه العودة إلى الذات هي التي أغنت الفنون البصريّة المعاصرة وجعلتها تنطلق من ذاتها، قبل أنْ تستعير أيّ طرفٍ آخر في عملية التخييل، إذْ لم تعُد الذات مثار غموضٍ، لأنّها أضحت مركز العملية الفنيّة، وهو ما يُفسّر لجوء كل من جيل دولوز وميشال فوكو إلى استخدام الفنّ وسيلة تعبيرية ناجعة لاجتراح مشروعٍ فكريّ ذاتيّ وفلسفي أكثر منه علميّاً جافّاً.


ثمّة ملاحظة يُسجّلها قارئ مؤلّف «الجسد العاري» في كونه بحثاً يقترب من «الفلسفي» أكثر منه إلى «الأنثروبولوجي»، إذْ إنّ القارئ يتوه قليلاً في استشكال الأنثروبولوجي داخل أعمال إيغون شيلي. بل يصعب عليه أصلاً تحديد طبيعة البحث، أكان دراسة فلسفية أو أنثروبولوجية أو مونوغرافية فنيّة تقرأ أعمال الفنّان في ضوء مفاهيم فلسفية. إنّ «العطب» الصغير الذي يكتنف البحث لناحية القبض على التحليل الأنثروبولوجي في صيغته التاريخيّة الحفرية، يجعل البحث مُتشعّباً ومفتوحاً على مختلف التأويلات المُمكنة. لا لأنّ التونسيّة يسرى بلالي، لم تمتلك العدّة الأنثروبولوجية اللازمة لتفكيك مفاهيم الاستطيقا والجنسانية داخل الأعمال التشكيليّة، وإنّما السبب يتجاوزها كباحثة، إذْ يعود أساساً إلى طبيعة البحث في موضوع الجسد، أمام غياب مصادر تُغذي وعي الباحث وترسم له آفاقاً منهجية واضحة، وهو ما يجعل بحث بلالي غنياً تتقاطع فيه مناهج عدّة ومعارف متباينة في كتابة تمزج الفلسفي بالنقدي والصحافي.