مرور مئة عام على إعلان دولة لبنان الكبير كانت مناسبة استغلّها كثيرون من أجل العودة إلى الجذور في مختلف المجالات والبحث في التّطور الذي مرّ به البلد طوال هذا القرن. من هذا المنطلق، يلخّص جان بالشيون واقع الموسيقى اللّبنانية ومسارها وكيفيّة تأثّرها بالنموذج الأوروبي في كتاب يحمل عنوان «بيان الموسيقى اللّبنانية» الصّادر عن «دار الفارابي».لا يدّعي بالشيون إعداد دراسة شاملة ومفصّلة عن الأعمال اللّبنانية أو عن تاريخها. هدفه الأساسي هو جمع المسائل التي واجهت الموسيقى اللّبنانية في تكوينها وتطوّرها عبر العقود، كاشفاً أهم المشكلات التي، في نظره، واجهت وما زالت التفكير الموسيقيّ المعاصر في لبنان.

يتمتّع بالشيون بخبرة في المجالَين الأكاديمي والفني الإنتاجي. أمرٌ ما مكّنه من تكوين رأي مبني على وقائع ودراسات معمّقة قام بها طوال سنوات. فهو حائز شهادة دكتوراه في العلوم الموسيقيّة وماستر في العزف على الغيتار. كما درّس الموسيقى وحاضر في عدد من المواد الموسيقيّة في معاهد وجامعات لبنانيّة. كما له خبرة في الإنتاج الموسيقي اللّبناني. مقدّمة طويلة يستهلّ بها بيانه هذا، حيث يعود إلى تطوّر الموسيقى في أوروبا، لما في ذلك من ارتباط وثيق مع تحوّل الموسيقى في لبنان كما سيبيّن لنا في الصّفحات المقبلة. يشدّد مثلاً على كيفيّة الانتقال من «المونودية» (monodie) التي كانت سائدة إلى البوليفونيّة أو تعدّدية الأصوات، وعلى الكتابة الدراماتورجيّة التي ظلّت العنصر الجامع في كلّ نظم الموسيقى الأوروبيّة، وهذا عائد في نظره، في الدرجة الأولى، إلى تبلور الشّخصية الإنسانيّة بانفصالها عن الفكر الجماعي. كما يعتبر أنّ الثقافة الأوروبيّة الحديثة نشأت من خلال صراع مع الثّقافة التقليديّة الإقطاعية، مقارنة مع الثّقافة العربية التي تطوّرت بالتّعايش مع الثّقافة التقليديّة.
يُلقي بالشيون نظرة عامة وسريعة على المسار الذي اتّخذه الموسيقيّون في لبنان في مجال تطوير هذا الفن وأشكاله. يقسّم الموسيقيّين في لبنان إلى ثلاثة أنواع: من حاول فهم الموسيقى العربية من خلال الأوروبية أمثال توفيق سكر، ومن كان أكثر اتصالاً بالواقع المحلّي برغم دراسته الموسيقيّة الأوروبيّة، كالأخوَين الرّحباني، ومن لم يأخذ شيئاً منها بل ظلّ يسير على خُطى الموسيقى التقليديّة. ويقف خصوصاً عند المسرح الغنائي، طارحاً في الوقت عينه إشكاليّاته والأعمال المهمّة التي نتجت منه مقترحاً خطوات إصلاحيّة لاستمراريّته أبرزها الابتعاد عن التداخل في المواضيع وإقحام الكوميديا في كل الأعمال، والابتعاد عن الأغنية بقالبها البسيط كما عن الحوارات غير الغنائيّة، وتجنّب الآلات الشعبيّة لأنّها غير قادرة على المعالجات الدّرامية، إضافة إلى ربع الصوت غير الصالح للكتابة الموسيقيّة الدّرامية.
لعلّ أبرز ما يلخّص نظرة بالشيون إلى المؤلّفين العرب، هو اعتباره أن المشكلة الأساسية لدى هؤلاء هي تعاطيهم مع حاضرهم من خلال ماضيهم، وليس من خلال مستقبلهم. كما تُعاني الموسيقى اللّبنانية الشرقية تحديداً مشكلة الأفكار القديمة التي لم يظهر أيّ جديد عليها. وأخيراً، يوجّه نقداً للتعليم الموسيقي الأكاديمي وثنائية الشرقي الغربي في المعاهد الموسيقيّة وكيفيّة فصل النمطين. فالتونالية امتداد للمقاميّة، ولو كانت نقيضة لها. برأيه، علينا التمثّل بالنموذج الأوروبي الذي ما زال يؤثّر في الموسيقى العالميّة منذ 500 عام إلى اليوم. وهذا لا يعني تقليده، بل التعلّم من تعثّراته ومن مشكلاته من أجل النّجاح في تطوير موسيقانا.
باختصار، وعلى الرّغم من إلقائه نظرة سريعة جداً على كافة المواضيع التي تشكّل صلب تكوين الموسيقى اللّبنانية الحديثة وتطوّرها، تبقى الأفكار المتعدّدة والمتشعّبة التي يطرحها البيان نقطة انطلاق لنقاش واسع وبداية تغيّر في طريقة التفكير والعقليّة من أجل توجيه القدرات الفنية الموجودة على مسار تطوّري ومجدِّد.