«في ناس هون عندن تار مع الإسرائيلية، في بيناتن دم». جملة قالتها وردة (صبا مبارك) لابنتها أميرة (تارا عبّود) وهي تحاول إقناعها بالهروب خارج فلسطين، بعدما كُشف أمرها وبدأ الفلسطينيّون برسم نجمة داوود على باب محلّها (كما كان النازيّون يفعلون). هذا المشهد في منتصف فيلم «أميرة» (2021) للمخرج المصري محمّد دياب، يدعو للتعجّب، أولاً من فكرة أنّ بعض الفلسطينيّين لديهم «ثأر» مع الإسرائيليّين، وثانياً من تشبيه الفلسطينيّين بالنازيّين الذين كانوا يرسمون نجمة داوود على بيوت اليهود. لعلّه غاب عن بال المخرج ومنتجي الفيلم إحدى أكبر البديهيّات في العالم: ليس ثأراً ما بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين، بل معركة بين احتلال وشعب محتلّ. لا يمكن تسخيف القضية إلى هذه الدرجة. الأغرب أنّها ليست الجملة الوحيدة أو المشهد الوحيد الذي يُثير العجب في الفيلم: نحن أمام أطنان من الأفكار الوقحة، ليس آخرها المشهد الأخير الذي يصوّر الجندي الإسرائيلي إيتاي (صالح بكري) حزيناً دامع العينين على موت أميرة، بينما في الجهة الثانية تُرفع صورها كشهيدة. مشهد أراد تصوير «طيبة قلب» الجندي الصهيوني، ساخراً في المقابل من فكرة الشهادة.

«أميرة» من أكثر الأفلام العربيّة إثارةً للجدل هذا العام. «هيئة شؤون الأسرى والمحرّرين» و«نادي الأسير الفلسطيني» و«الهيئة العليا لمتابعة شؤون الأسرى»، طالبت بوقف عرضه، وأدّت الضغوط والحملات إلى منعه من العرض، قبل أن تسحبه الأردن من سباق الأوسكار بعدما اختارته ليمثّلها. الجدل مفهوم وطبيعي، فأي فيلم عن فلسطين والفلسطينيّين، وخاصة الأسرى في السجون الإسرائيلية هو بيان سياسي قبل أن يكون فيلماً سينمائياً روائياً. لا يمكن فصل الاثنين، وهذا أيضاً من البديهيّات. لا يُمكن صنع فيلم عن فلسطين بهذه الطريقة، وطلب الحرية الفكرية من شعب يُحارب من أجل الحرّية والعدالة، أو ادّعاء الحريّة الفكريّة في وطن عربي أبعد ما يكون عن الحرية. بالطبع، يجب رفض المنع أو التخوين، ولكنّ سؤالاً واحداً مشروعاً يجب أن يُطرح على المخرج والفريق: قضية الأسرى جرح إنساني وسياسيّ ونضاليّ حسّاس، فهل يجوز «التلاعب» به فنّياً لضرورات التشويق والإثارة؟ وماذا عن الحبكة الغرائبيّة التي أُسبغت على موضوع واقعيّ حرج بكل معنى الكلمة؟
يحكي الفيلم قصة أميرة، الفتاة الفلسطينيّة التي وُلدت من خلال عمليّة تهريب النُّطف وتبلغ اليوم 17 عشر عاماً. تعيش مع والدتها وردة وعائلة أبيها نوّار (علي سليمان) الأسير في السجون الإسرائيلية. لم تلمس وردة زوجها قط، تراه فقط من خلف الزّجاج خلال الزيارات العائلية، وكذلك تفعل أميرة. كل شيء يبدو طبيعيّاً إلى أن يطلب نوّار من وردة الحمل من جديد بطريقة تهريب النّطف. تتردّد وردة قبل القبول. نجحت عمليّة التهريب، لكن المفاجأة تقع عندما يكتشف الأطباء أن النطفة المهرّبة التي استلموها هي لشخص عقيم لا يمكنه الإنجاب إطلاقاً. أمرٌ يدفع عائلة الزّوج ومعه أميرة للشك في سلوك الأم، وتبدأ عمليّة مطابقة للبصمة الوراثية مع جميع المحيطين بالزوجة، لكن من دون جدوى. تواصل أميرة عملية البحث عن والدها البيولوجي إلى أن تصل إلى قناعة بأنّ حارس السجن الإسرائيلي الذي هرّب النطفة قام باستبدالها بنطفته، فتنقلب حياتها رأساً على عقب.
الفكرة الأساسية حوّلها دياب إلى فوضى اجتماعية سياسية مشكوك فيها ولا معنى لها من الناحية السّردية


الواقعيّة الاجتماعيّة هي أساس أفلام المخرج المصري محمد دياب بدءاً من 678 (2010)، وصولاً إلى «اشتباك» (2016)، لكن دائماً ما كانت واقعيّته نسبيّة بالنسبة إلى الحقيقة. وهذه أساس المشكلة هنا. الواقعية الاجتماعية في مصر أو في أي بلد عربي تختلف كلياً عن الواقعية في فلسطين. «متعوّدين على الأسرار» جملة قالتها إحدى الشخصيات في الفيلم، مما يعني أنّ أي حقيقة عن المجتمع الفلسطيني، يمكن أن تكون تمويهاً للحقائق، من أجل السّلامة العامة وطابع البلد المقاوم. «هذا ليس فيلماً وثائقيّاً»، ذلك كان دفاع صنّاع الفيلم عنه. نعرف تماماً أنّه ليس وثائقياً ولكن موضوع فلسطين حسّاس جداً، فكيف إذا كان الفيلم يتحدّث عن الأسرى في السجون وتهريب النطف؟ هنا أدنى معرفة بالواقع وكيفيّة تهريب النُّطف أمرٌ مطلوب وضروري. ما صنعه دياب بعيد عن الواقع، والمجتمع الفلسطيني الذي شاهدناه في الفيلم، هو مجتمع علماني نسبياً. المدينة التي تمّ تصويرها هي بلدة فلسطينيّة لا نعرف أين تقع. الشخصيّات التي قدّمها جاءت مبتورة القدمين، لم تصل إلى مكان، ولا ماض لها. شخصيّات ومنطقة هبطت علينا، وجاء دياب ليقول إنّنا في فلسطين، وهناك معضلة هويّة بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين، ودماء مشتركة الآن، فما الحل؟
حاول دياب استعمال أدوات الإثارة والتشويق في البحث عن والد أميرة، ولكن الفيلم توقّف فعلياً عند معضلة عقم نوار. كلّ ما أتى بعد ذلك هو مجرّد هروب من الواقع وكشف الجهل به. حاول دياب استعمال الكاميرا المحمولة يدوياً، ولكن إيقاع الفيلم الجاف والشخصيّات الجوفاء، سلخا الشريط عن القضية الأساسية. في كثير من الأوقات، كدنا ننسى أننا في فلسطين. كأن المخرج أراد استعمال هذه القضية الحسّاسة جداً فقط لأغراض تجارية شخصية؟ (يتحضّر دياب لإخراج مسلسل «فارس القمر» من إنتاج «ديزني» و«مارڤل»). فكرة استبدال النّطفة تطرح الكثير من علامات الاستفهام، ويصعب التّصديق. يُمكن للجندي أن يتلف النّطفة، أن يعبث بها، ولكن أن يستبدلها؟! لا شكّ في أن هذا الجندي لديه أجندة غامضة وغريبة بعض الشيء، وبالطبع لم يوضح الفيلم أي شيء من هذا، وما هو دافعه من الأساس. سبب استبدال النّطفة موضوع أكبر من قصّة الفيلم نفسها، وكان يُمكن أن يكون الموضوع مثيراً للاهتمام، ولكن المخرج لم يتطرّق إليه أبداً.


خلط دياب الدماء الفلسطينيّة والإسرائيليّة في فيلمه، واضعاً أميرة في معضلة البحث عن هويّتها الخاصة، وهوية فرضها المجتمع عليها فجأة. كانت أميرة تحاول صناعة ذكريات مع والدها الأسير من خلال التصوير. كانت تلصق صورها الشخصيّة بجانب صوره كأنّنا بها تملأ الفراغ وتصنع عالماً عائلياً (وهمياً) من الذكريات ليس موجوداً من الأساس، بفعل هذا الأسر. دار الفيلم حول نفسه مراراً وتكراراً للخروج من هذه المعضلة، وضع أفكاراً كثيرة ولم يكملها مثل فكرة لصق الصور، الشك في باسل (زياد بكري) شقيق نوار، المثليّة الجنسيّة المفترضة لهاني (قيس ناشف) أستاذ أميرة في المدرسة وزميل وردة، الشكّ في رجال العائلة... في الطبيب، ليخرج بعدها أنّ الأب إسرائيلي. ثم تأتي النهاية لتكون محقِّرة أكثر من فكرة الفيلم نفسه. أظهر دياب الفلسطينيّين على أنّهم يُعانون من اضطراب هوية ويحملون كراهية عمياء لأي إسرائيلي (وهذا طبيعي). لكن تصوير الفلسطينيّين على أنّهم كرهوا أميرة فجأة، وحين قُتلت، حوّلوها إلى شهيدة، وتصوير الجندي الإسرائيلي (الأب البيولوجي) وهو يبكي عليها أمرٌ يحمل شيئاً من الخبث.
وتيرة الفيلم تراجعت بعد كشف عقم نوّار. المشاهد المتتالية السريعة جعلتنا ننسى ما حصل قبل ثوانٍ. فكرة الفيلم الأساسية هي النطف المهرّبة، هذه المعجزة على الرغم من أنها عظيمة لكنّها ليست خصبة تماماً لتحمل الفيلم كلّه، بخاصة مع سيناريو يفلت كل الوقت من بين يدَي المخرج. هذه الفكرة الأساسية حوّلها دياب إلى فوضى اجتماعية سياسيّة مشكوك فيها ولا معنى لها من الناحية السردية. «أميرة» قدّم الهوية الفلسطينيّة بطريقة سطحيّة (وخبيثة إذا افترضنا سوء النية) في فيلم يصعب تصديقه أو التعاطف معه. انتهى ليكون فيلماً عربياً عقيماً يحوّل القضية الفلسطينيّة من قضيّة عدالة إلى ديكور مزيّف.