كتابة تاريخ ثقافة موسيقية بعيدة في الزمن هي عملية تأمّل، وعلى المرء ألّا يحاول وضع نفسه داخل «البلد الأجنبي» الذي هو تاريخ فحسب، بل ينبغي أن يجهد للخروج من مشهد المعلومات الذي يُعلِم قيمنا الموسيقية الثقافية. في العالم الإسلامي خلال القرون الوسطى، كانت الروابط بين الموسيقى العملية، ونظرية الموسيقى، والميتافيزيقا مرتبطة بنظرة المؤرّخين الإسلاميين الأوائل إلى ماضيهم وحاضرهم بالتزامن مع الانعكاس الشخصي والمجتمعي المتأصّل في ممارسة الإسلام. أما كيف تركت هذه التقاطعات بصمتها على التصورات واستخدامات الموسيقى، فهو المفتاح لفهم الثقافة الموسيقية. مع توسّع الدول الإسلامية في القرنين السابع والثامن، كان المجتمع الإسلامي المتنامي في حاجة إلى بناء هُوية تميزه عن أتباع الديانات الأخرى، كما إلى وسيلة لفهمها كما تتكشّف. تأمّل علماء الشريعة والدين والتاريخ في كيفية عمل الأنواع الموسيقية في إطار إسلامي، بخاصة أنّ الموسيقى كانت جوهرية في تعدد الآلهة والتوحيد. بدأ المؤرّخون الإسلاميون الأوائل في العصور الوسطى، بالنظر إلى تاريخهم وتاريخ الثقافات التي غزوها وأُعجبوا بها وأقاموا علاقات معها. لكنّ الموسيقى كانت دوماً جزءاً من ثقافات الشعوب الناطقة باللغة العربية وفق تأكيدات علماء الدين في وقت لاحق، إذ ألمح الفولكلور والشعر إلى ممارسات ما قبل الإسلام، مع أن غالبية ذلك التاريخ تمّ نقلها شفهياً.
«حلقة موسيقية» (القرن الثامن عشر)

خلال القرن التاسع، تولّت ترجمة الأطروحات اليونانية والرومانية والهندية والفارسية حول كل شيء من العلوم إلى الأدب، تقديم أدوات كثيرة للمجتمع الأكاديمي. وكان استيراد العبيد الأجانب والعمّال المهرة إلى المراكز الحضرية قناةً أخرى للمعرفة الجديدة. اعتمد المؤرّخون الإسلاميون على هذه المصادر كلّها، وقاموا بتفسيرها في سياق الهُوية والشريعة الإسلاميتين. لقد عكسوا الماضي في حاضرهم وحاولوا فهم الحاضر من خلال قراءتهم للماضي. في كثير من الأحيان، كانت هذه المفاهيم متباينة على نحو كبير، كما سيتبيّن من قراءة فصول كتاب «الموسيقى والموسيقيون في العالم الإسلامي الوسيط» (Tauris 2021) لليزا نيلسون. كانت البلاطات والمثقّفون والطبقات المتوسطة الحجر الأساس لرعاية الموسيقى الترفيهية، مع أن الجمهور نفسه، وفنّاني الأداء، استُنزفوا في الاستخدامات الدينية أيضاً. إلى جانب تجاوزات الطبقات الأكثر ثراءً، أدى تلميح اللحن للمساحات الدينية إلى بدء النقاش حول مكانة الموسيقى في الإسلام، وكان محور كل النقاش التأثيرات الجسدية والميتافيزيقية في المستمع.
تقول الكاتبة إن الممارسات الموسيقية في العالم الإسلامي نشأت من التقاليد الموجودة والاقتراضات الخارجية. فالشعر كان مهمّاً لعرب ما قبل الإسلام، مثله مثل الارتجال الشعري وتقليد التلاوة العاطفية. ووجدت الأغنية جنباً إلى جنب مع الشعر في شكل أغنيات السفر وفي العمل والزفاف والجنازة والحانات.
أما الغرض من هذه الدراسة، فهو التركيز على شريحة صغيرة من تاريخ الموسيقى الإسلامية في العصور الوسطى، لعلّ آخرين يملؤون الفجوات العديدة التي تركتها، خاصة التقاطعات المثيرة والاقتراضات بين الثقافات من القرن الحادي عشر إلى القرن الخامس عشر، دوماً بحسب الكاتبة. فهناك حاجة كبيرة إلى فهم كيفية تطور الموسيقى الإسلامية في العصور الوسطى في مناطق مختلفة من الدول الإسلامية، وتأثير هذه التواريخ في الثقافات الموسيقية العالمية. على الرغم من صعوبة تتبّع خيوط أنواع معينة، واللحن، والآلات، والإيقاع في هذه الفترات الشاسعة من الزمن والجغرافيا، فمن الآمن القول إنّ ثقافات العصور الوسطى استعارت وشاركت الموسيقى على نحو مباشر وغير مباشر. فالموسيقى معقّدة للغاية لا يمكن حصرها في بضع صفحات، والقيام بذلك يسلبها الحيوية. على مدى صفحات الكتاب، ركّزت المؤلِّفة ـــ وهي عالمة موسيقى تاريخية متخصّصة في دراسات المرأة ــــ أبحاثها على تقاطعات الجندر والعبودية والجنس والموسيقى في البلاطات الإسلامية في العصور الوسطى. وهي تعتبر أنّ الموسيقى هي في الأساس مؤسسة اجتماعية وعلاقة مدفوعة بمؤسسات جسدية وميتافيزيقية أخرى. لكن هذا لا يقلّل من قوتها كوسيلة إبداعية وإيحائية ومراوِغة، بل على العكس تماماً. تتطلب إعادة إدخال الموسيقى في المياه الموحلة للتجربة والإدراك والتاريخ والنص مقاربةً مختلفة لكيفية تفكيرنا في الإبداع والواقع والحقيقة. عند القيام بذلك، يكون بمقدورنا بناء تواريخ مختلفة، وبالتالي فهم أعمق لكيفية استمرار تلك التواريخ في التأثير فينا اليوم.
وُجدت الأغنية جنباً إلى جنب مع الشعر في شكل أغنيات السفر والزفاف والجنازات والحانات


أخيراً، نقدم تالياً عرضاً مفصلاً للفصول، موظفين كلمات الكاتبة التي قسمت المحتوى إلى جزءين أولهما: «الثقافة الموسيقية في البلاطات الإسلامية المبكرة» الذي يحوي لمحة عامة عن الموسيقى والأداء في الدول الإسلامية المبكرة ومصطلحات شائعة الاستخدام لمناقشة الموسيقى وتعريفها، وفئات الموسيقيين. وينظر الفصل الأول (الموسيقى والموسيقيون) في ما يمكن استعارته من الثقافات الأخرى وكذلك في الممارسات التي تمّ تبنيها من تقاليد ما قبل الإسلام، «مثل غناء العبيد والمخنثين من شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام».
ينظر الفصلان الثاني والثالث («الموسيقى والأداء»، و«الرعاة والمغنيات والمخنثون والرجال») إلى الموسيقى، وممارسات الأداء، والرعاة في البلاطات الإسلامية المبكرة.
توضح الكاتبة أن الصالونات والتجمّعات المتعلقة بالموسيقى والشعر، بما في ذلك سرد القصص في الأماكن العامة، تعمل كلّها في أبعاد عدّة: الجمهور، الراعي، المؤدي (المؤدون)، الكلمة، والصوت. ضمن هذه المصفوفة، كان التعريف الرسمي للأغنية والتلاوة الشعرية أقل أهمية من منظور الجمهور وفناني الأداء. لا نزال نرى نظائرهما اليوم، خاصة في الأحداث الموسيقية الشعرية الشعبية والارتجالية. توجد الكلمات المنطوقة، والراب، والهيب هوب، والمزج، والجاز، وما إلى ذلك ضمن طيف الشعر الصوتي مع الاستمرار في تحدي التعريف الواضح.
ونظراً إلى اختلاف التوقعات للعروض الموسيقية وغير الموسيقية لكل من الرجال والنساء، فقد كان الوصول إلى الحراك الاجتماعي مرتبطاً بالجنس والأقارب والأصل، فضلاً عن الوضع القانوني والاجتماعي.
يتعمّق الفصل الرابع (الأداء الأدبي للموسيقى وقراءة الهُوية الموسيقية) في مؤسسات العبودية والنوع الاجتماعي في الدول الإسلامية في العصور الوسطى. مع ذلك، فإنّ توضيح كيفية ارتباط تصورات الموسيقى والموسيقيين في المجتمع الإسلامي في العصور الوسطى بالجنس والوضع الاجتماعي والجندر، هو عمل فوضوي. إن سيولة المصطلحات العربية وفهمنا الضعيف لمعنى هذه المفاهيم في ذلك الوقت، لا يتناسبان بسهولة مع التصنيفات الحديثة. إضافة إلى الاختلافات البيولوجية، تضمّنت بعض الخصائص التي أسهمت في تحديد الهُوية الجنسية علامات جسدية مرئية، مثل طول الشعر وأسلوبه وشعر الوجه واللباس والسلوكيات، وكذلك الفئات الاجتماعية/ الثقافية، مثل الزواج والمهنة.
الجزء الثاني (تنويعات المتعة: تمثيلات الموسيقى والهوية) يتحول إلى التمثيل الأدبي للموسيقى والموسيقيين، بخاصة المحادثات حول السماع وسياسة الاستماع. في الفصل الخامس (الأداء الأدبي للموسيقى وقراءة الهوية الموسيقية)، تناقش الكاتبة الاستخدامات الرمزية والبلاغية للموسيقى وشخصية الموسيقي في الأدب، والتأثير المحتمل الذي قد يكون لها في إدراك الموسيقى. توجد الروايات التي يشارك فيها موسيقيون في مجموعة متنوّعة من الأنواع الأدبية العربية وتخدم أغراضاً رمزية مختلفة. وقد تم نشر موضوعات مثل التوبة والتقوى والتجديف المتعمّد وسيلةً لدعم الصور الإيجابية للشخصيات الموسيقية البارزة والرعاة، وبالتالي الموسيقى نفسها، أو تقويضها.
يركّز الفصل السادس (سياسة السماع) على صعود المناقشات حول مشروعية الاستماع للموسيقى في الإسلام. كان السماع ممارسةً مرتبطة بالصوفية، ولا يزال كذلك. في وقت مبكر من القرن الثامن، بدأ بعض الصوفيين بدمج السماع والحركة في الولاءات الجماعية، وكان الغرض منه إحداث حالة من النشوة في المستمع، من أجل تقريبه من الإله.


اعتماداً على منظور الترتيب، يمكن أن يكون «السماع والذكر» طويلاً ومكثفاً عاطفياً ومليئاً بالموسيقى والتلاوة، لكن ليس على نحو غير متوقّع. ذلك أن نقد السماع نشأ من مخاوف دينية واجتماعية وسياسية حول التجاوزات الاجتماعية والروحية. ترى الكاتبة أنه رغم كتابة الكثير عن السماع، إلا أن تطوره كمفهوم موسيقي فلسفي أوسع لم يتم استكشافه بالكامل.
تم اعتبار «ذمّ الملاهي» لابن أبي الدنيا (823-94 ت س / 207-80 هـ) أول أطروحة متوافرة تركز تركيزاً خاصاً على السماع باعتباره رائداً بين العديد من «الانحرافات» غير الصحية. وقد ألهمت أطروحة ابن أبي الدنيا ردوداً من علماء آخرين، وظهر نقاش حيوي ونوع فرعي داخل أدب التقوى يركز على الاستماع في القرنين التاسع والعاشر، وساعدت مناهج الموسيقى ونظرية الموسيقى العلماء وعازفي الفرق الموسيقية على وضعه مع أنواع الأصوات الأخرى في إطار إسلامي. وتضيف الكاتبة: «قدمت النصوص المتخصّصة في نظرية الموسيقى والفلسفة (الموسيقي) لعمالقة مثل الكندي والفارابي أسس الموسيقى العملية والتفكير النظري».
لكنّ كثيراً من العلماء ممن دافعوا عن السماع (أو سمحوا بأن الموسيقى كانت مقبولة في ظل ظروف معينة) كانوا من الصوفيين، أمثال عبيد بن سريج (توفي أواخر القرن السابع، أوائل القرن الثامن / القرن الأول) وما بعده من فلاسفة أمثال أبي حامد محمد بن محمد الطوسي الغزالي (1058-1111 م / 450-505 هـ). لكن هذا لم يوافق كل صوفي.
ووصلت الآراء ضمن أوامر الصوفي من الأحكام الصارمة ضد جميع استخدامات السماع، إلى تحديد أنّ أولئك الذين بلغوا العمر والحكمة فقط هم الذين يجب أن يختبروه لأنهم سيكونون أكثر حصانة من الانحرافات الأرضية.
لقد كانت قضية الحافز التي دعت إلى استعمال السماع مماثلةً لمن دعا ضدها، أي كيفية التخلّص من المتعة الحسية للاستماع إلى الموسيقى (خاصة عندما يؤديها موسيقي جذاب بصرياً) وتحويلها وسيلةً للوصول إلى الإلهية. كان سهلاً جداً نقل تقدير الفن إلى تقدير المغني. أما أولئك الذين كانوا متشكّكين في ما إذا كان هذا التجريد ممكناً، فإنّ تجنّب الموسيقى تماماً فقط هو الذي سيحافظ على سلامة المرء.
الفصل السابع (الانزعاج واللوم: الدعوى ضد السماع) خصّصته الكاتبة لآراء مجموعة مختارة من العلماء ممن دافعوا بشدة عن السماع. تقول: «رغم وجود كثير من الكتاب الذين كتبوا دفاعاً عن السماع، إلا أنّ كتاباتهم تركز حصراً على وجهة النظر المعارضة. إن التفاصيل التي قدمها هؤلاء المؤلفون في وجهة نظرهم، تلقي ضوءاً كاشفاً على ممارسات الأداء المعاصرة، بما في ذلك استخدامات الموسيقى النخبوية وغير النخبوية. لقد أعادوا تعريف المصطلحات الموسيقية وتاريخ الموسيقى لتعزيز موقفهم، وطلبوا ردوداً أكثر دقة ممن دعموا السماع وتجربة الموسيقى». يحاول الفصل الأخير «تأملات» الجمع بين هذه الخيوط العديدة معاً واقتراح بعض الاستنتاجات العامة حول سياسة الموسيقى، لكنّ هناك العديد من الأسئلة التي تُركت من دون إجابة.

Music and Musicians in the Medieval Islamicate World. i.b. Tauris 2021. extent: i-viii, 298. lisa nielson